Search
Close this search box.

الطَّرِيقُ إِلَى الشَّهادَةِ

الطَّرِيقُ إِلَى الشَّهادَةِ

الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام في طَرِيقِ كَرْبَلاءَ:
جَدَّ الرَّكْبُ الحُسَيْنِيُّ في المَسِيرِ نَحْوَ العِراقِ، وَكانَ قَدْ مَرَّ في طَرِيقِهِ مِنْ مَكَّةَ، حَتَّى وُصُولِهِ إِلَى كَرْبَلاءَ، بِمَواقِعَ وَمَنازِلَ عَدِيدَةٍ، بَقِيَ الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام في بَعْضِها يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَلَبِثَ في بَعْضِها الآخَرِ يَوْمًا، وَلَمْ يَبْقَ في بَعْضٍ آخَرَ إِلَّا ساعاتٍ قَلِيلَةً، وَتَوَقَّفَ في بَعْضٍ آخَرَ لِأَداءِ الصَّلاةِ فَقَطْ. وَقَدِ الْتَحَقَ بِهِ عَدَدٌ مِنَ المُوالِينَ أَثْناءَ الطَّرِيقِ.

الْتَقَى الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام ، في طَرِيقِهِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى كَرْبَلاءَ، بِالعَدِيدِ مِنَ الأَشْخاصِ، وَحَدَثَ الكَثِيرُ مِنَ المَواقِفِ، الَّتِي أَكَّدَ مِنْ خِلالِها أَهَمِّيَّةَ قِيامِهِ بِوَجْهِ يَزِيدَ بْنِ مُعاوِيَةَ، وَالهَدَفَ الواضِحَ مِنْ هَذا القِيامِ.

وَقِيلَ: إِنَّ الشَّاعِرَ الفَرَزْدَقَ، وَهُوَ هَمَّامُ بْنُ غالِبٍ التَّمِيمِيُّ الحَنْظَلِيُّ، كانَ قَدْ لَقِيَ الإِمامَ عليه السلام ، قَبْلَ خُرُوجِ الرَّكْبِ الحُسَيْنِيِّ، مِنَ الحَرَمِ إِلَى أَرْضِ الحِلِّ، فَسَلَّمَ عَلَى الإِمامِ عليه السلام ، وَسَأَلَهُ: أَعْطاكَ اللهُ سُؤْلَكَ، وَأَمَّلَكَ فِي ما تُحِبُّ؛ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، يا ابْنَ رُسُولِ اللهِ، ما أَعْجَلَكَ عَلَى الحَجِّ؟

فَقالَ الإِمامُ عليه السلام : “لَوْ لَمْ أَعْجَلْ لَأُخِذْتُ… أَخْبِرْنِي عَنِ النَّاسِ خَلْفَكَ؟”.

فَأَجابَ الفَرَزْدَقُ: قُلُوبُ النَّاسِ مَعَكَ، وَسُيُوفُهُمْ عَلَيْكَ، وَالقَضاءُ يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ، وَاللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ.

الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام يَعْلَمُ بِمَقْتَلِ مُسْلِمٍ رضي الله عنه :
كانَ الرَّكْبُ في الثَّعْلَبِيَّةِ وَهِيَ ثُلُثا الطَّرِيقِ لَمَّا عَدَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكُوفَةِ عَنِ الطَّرِيقِ، رَآهُ الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام ، فَقَصَدَهُ كَأَنَّهُ يُرِيدُهُ؛ ثُمَّ تَرَكَهُ وَمَضَى. فَاقْتَرَبَ مِنَ الرَّجُلِ رَجُلانِ أَسَدِيَّانِ، وَسَلَّما عَلَيْهِ، وَكانَ بَكِيرُ بْنُ المَثْعَبَةِ، فَسَأَلاهُ: أَخْبِرْنا عَنِ النَّاسِ وَراءَكَ؟ قالَ: لَمْ أَخْرُجْ مِنَ الكُوفَةِ حَتَّى قُتِلَ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ، وَهانِي بْنُ عُرْوَةَ، فَرَأَيْتُهُما يُجَرَّانِ بِأَرْجُلِهِما في السُّوقِ.

فَنَظَرَ إِلَيْهِما الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام ، وَقالَ: “لا خَيْرَ في العَيْشِ بَعْدَ هَؤُلاءِ”.

وَنَظَرَ إِلَى بَنِي عَقِيلٍ، فَقالَ لَهُمْ: “ما تَرَوْنَ، فَقَدْ قُتِلَ مُسْلِمٌ؟”.

فَبادَرَ بَنُو عَقِيلٍ، وَقالُوا: “وَاللهِ، لا نَرْجِعُ؛ أَيُقْتَلُ صاحِبُنا وَنَنْصَرِفُ؟! لا وَاللهِ، لا نَرْجِعُ حَتَّى نُصِيبَ ثَأْرَنا، أَوْ نَذُوقَ ما ذاقَ صاحِبُنا”.

فَلَمَّا كانَتِ الظَّهِيرَةُ، وَضَعَ الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام رَأْسَهُ، فَرَقَدَ؛ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، فَقالَ: “رَأَيْتُ هاتِفًا يَقُولُ: أَنْتُمْ تَسِيرُونَ، وَالمَنايا تُسْرِعُ بِكُمْ نَحْوَ الجَنَّةِ”.

فَسَأَلَهُ ابْنُهُ عَلِيٌّ الأَكْبَرُ: “يا أَبَهْ، أَوَلَسْنا عَلَى الحَقِّ؟”.

قالَ عليه السلام : “بَلَى، يا بُنَيَّ، وَاللهِ الَّذِي إِلَيْهِ مَرْجِعُ العِبادِ”.

فَقالَ عَلِيٌّ الأَكْبَرُ: “يا أَبَهْ، إِذًا، وَاللهِ، لا نُبالِي بِالمَوْتِ”.

فَأَجابَهُ الإِمامُ عليه السلام : “جَزاكَ اللهُ، يا بُنَيَّ، خَيْرَ ما جَزَى وَلَدًا عَنْ والِدِهِ”.

وَتابَعَ الرَّكْبُ الحُسَيْنِيُّ المَسِيرَ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى زُبالَةَ، وَهِيَ قَرْيَةٌ عامِرَةٌ، بِها أَسْواقٌ بَيْنَ واقِصَةَ وَالثَّعْلَبِيَّةِ، وَهُناكَ وَصَلَ مَبْعُوثُ مُحَمَّدِ بْنِ الأَشْعَثِ، لِيُخْبِرَ الإِمامَ بِاسْتِشْهادِ مُسْلِمٍ، وَخِذْلانِ أَهْلِ الكُوفَةِ؛ وَكانَ مُسْلِمُ اْبْنُ عَقِيلٍ رضي الله عنه قَدْ أَوْصَى عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ، قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ بِوَصاياهُ، وَالَّتِي كانَتِ الأَخِيرَةُ مِنْها: “وَابْعَثْ إِلَى الحُسَيْنِ مَنْ يَرُدُّهُ، فَإِنِّي قَدْ كَتَبْتُ إِلَيْهِ، أُعْلِمُهُ أَنَّ النَّاسَ مَعَهُ، وَلا أَراهُ إِلَّا مُقْبِلًا”. فَقالَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ لِابْنِ زِيادٍ، في اللَّحْظَةِ نَفْسِها، بِما أَوْصاهُ مُسْلِمٌ رضي الله عنه ، فَقالَ ابْنُ زِيادٍ لَهُ: “إِنَّهُ لا يَخُونُكَ الأَمِينُ، وَلَكِنْ قَدْ يُؤْتَمَنُ الخائِنُ”.

وَأَمَّا مَبْعُوثُ ابْنِ الأَشْعَثِ، فَهُوَ إِياسُ بْنُ العَثَلِ الطَّائِيُّ، شاعِرٌ كانَ في زِيارَةٍ لِلْكُوفَةِ؛ أَعْطاهُ ابْنُ الأَشْعَثِ راحِلَةً، مُقابِلَ أَنْ يُبَلِّغَ الإِمامَ الحُسَيْنَ عليه السلام ، بِأَمْرِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ رضي الله عنه ، إِذا ما التَقاهُ في الطَّرِيقِ، فَفَعَلَ إِياسٌ ذَلِكَ، وَقَد بَقِيَ في زُبالَةَ أَرْبَعَ لَيالٍ بِضِيافَةِ الإِمامِ عليه السلام.

فَلَمَّا اسْتَيْقَنَ الإِمامُ عليه السلام مِنْ خَبَرِ مَقْتَلِ مُسْلِمٍ، جَمَعَ أَصْحابَهُ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتابَهُ، وَهُوَ: “بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ قَدْ أَتانا خَبَرٌ فَظِيعٌ؛ قُتِلَ مُسْلِمُ اْبْنُ عَقِيلٍ، وَهانِئُ بْنُ عُرْوَةَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ بَقْطُرَ؛ وَقَدْ خَذَلَتْنا شِيعَتُنا، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمُ الانْصِرافَ، فَلْيَنْصَرِفْ، لَيْسَ عَلَيْهِ مِنَّا ذِمامٌ”.

فَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ تَفَرُّقًا، حَتَّى بَقِيَ في أَصْحابِهِ، الَّذِينَ جاؤُوا مَعَهُ مِنَ المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ وَمَكَّةَ؛ وَإِنَّما كانَ الَّذِينَ الْتَحَقُوا بِهِ في الطَّرِيقِ مِنَ الأَعْرابِ، لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ يَأْتِي بَلَدًا، قَدِ اسْتَقامَتْ لَهُ طاعَةُ أَهْلِهِ. وَتُؤَكِّدُ المُتُونُ التَّارِيخِيَّةُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الأَطْماعِ وَالارْتِيابِ، تَفَرَّقُوا عَنِ الإِمامِ في زُبالَةَ.

لَقَدْ أَرادَ الإِمامُ عليه السلام مِنْ كَلامِهِ السَّابِقِ، أَنْ يَنْتَقِيَ الخُلَّصَ الَّذِينَ سَيَقُومُونَ مَعَهُ بِأَداءِ واجِبِهِمُ الشَّرْعِيِّ؛ وَتِلْكَ هِيَ سُنَّةُ القادَةِ الرَّبَّانِيِّينَ في قِيامِهِمْ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ النَّاصِرَ الرَّبَّانِيَّ، وَلا يَهْتَمُّونَ بِكَثْرَةِ العَدَدِ وَالعُدَّةِ؛ وَقَدْ واصَلَ الإِمامُ عليه السلام اخْتِبارَ وَامْتِحانَ تَصْمِيمِ الباقِينَ مَعَهُ عَلَى الشَّهادَةِ، حَتَّى آخِرِ لَحْظَةٍ.

جَيْشُ الحُرِّ الرِّياحِيِّ يُجَعْجِعُ بِالرَّكْبِ الحُسَيْنِيِّ:
وَصَلَ الرَّكْبُ إِلَى مِنْطَقَةِ “ذُو الحَسْمِ”، وَهُوَ جَبَلٌ يَقَعُ بَيْنَ شِرافٍ، وَبَيْنَ مَنْزِلِ بَيْضَةَ؛ فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهارُ، كَبَّرَ أَحَدُ الرِّجالِ، فَقالَ الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام : “أَللهُ أَكْبَرُ، لِمَ كَبَّرْتَ؟”.

فَقالَ: رَأَيْتُ نَخْلًا.

فَأَجابَهُ قَوْمٌ: ما رَأَيْنا نَخْلَةً قَطُّ في هَذا المَكانِ.

فَسَأَلَهُمُ الإِمامُ عليه السلام عَنِ الأَمْرِ، فَقِيل: إِنَّها الخَيْلُ.

فَقالَ الإِمامُ عليه السلام : وَأَنا، وَاللهِ، أَرَى ذَلِكَ.. أَما لَنا مَلْجَأٌ نَلْجَأُ إِلَيْهِ، نَجْعَلُهُ في ظُهُورِنا، وَنَسْتَقْبِلُ القَوْمَ مِنْ وَجْهٍ واحِدٍ؟”.

فَقِيلَ لَهُ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى جَبَلِ “ذُو الحَسْمِ”، فَتَوَجَّهَ الرَّكْبُ ناحِيَةَ الجَبَلِ، فَما كانَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ طَلَعَتِ الخَيْلُ وَراءَهُمْ، وَجاءَ القَوْمُ، وَهُمْ أَلْفُ فارِسٍ مَعَ الحُرِّ بْنِ يَزِيدٍ التَّمِيمِيِّ الرِّياحِيِّ، حَتَّى وَقَفَ هُوَ وَخَيْلُهُ، مُقابِلَ الإِمامِ عليه السلام في حَرِّ الظَّهِيرَةِ، وَالإِمامُ عليه السلام وَأَصْحابُهُ مُعْتَمُّونَ، شاهِرُو السُّيُوفِ؛ فَلَمَّا رَآهُمُ الإِمامُ عليه السلام ، أَمَرَ فِتْيانَهُ بِأَنْ يَسْقُوا القَوْمَ وَالخَيْلَ، فَفَعَلُوا.

بَقِيَ الحُرُّ مَعَ الإِمامِ عليه السلام ، حَتَّى حَضَرَتْ صَلاةُ الظُّهْرِ، وَبَعْدَ رَفْعِ الأَذانِ، وَقَفَ الإِمامُ عليه السلام ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَخاطَبَ القَوْمَ قَائِلاً: “أَيُّها النَّاسُ، إِنَّها مَعْذِرَةٌ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِلَيْكُمْ. إِنِّي لَمْ آتِكُمْ، حَتَّى أَتَتْنِي كُتُبُكُمْ، وَقَدِمَتْ عَلَيَّ رُسُلُكُمْ: أَنْ أَقْدِمْ عَلَيْنا، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَنا إِمامٌ، لَعَلَّ اللهَ يَجْمَعُنا بِكَ عَلَى الهُدَى؛ فَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ جِئْتُكُمْ، فَإِنْ تُعْطُونِي ما أَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ، مِنْ عُهُودِكُمْ وَمَواثِيقِكُمْ، أَقْدِمْ مِصْرَكُمْ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا، وَكُنْتُمْ لِمَقْدَمِي كارِهِينَ، انْصَرَفْتُ عَنْكُمْ إِلَى المَكانِ الَّذِي أَقْبَلْتُ مِنْهُ إِلَيْكُمْ”.

ثُمَّ أَقامَ عليه السلام لِلصَّلاةِ، وَسَأَلَ الحُرَّ: “أَتُصَلِّي بِأَصْحابِكَ؟”.

فَأَجابَهُ الحُرُّ: “بَلْ تُصَلِّي أَنْتَ، وَنُصَلِّي بِصَلاتِكَ”.

فَصَلَّى بِهِمُ الإِمامُ عليه السلام ، ثُمَّ دَخَلَ وَاجْتَمَعَ في أَصْحابِهِ، وَانْصَرَفَ الحُرُّ إِلَى مَكانِهِ؛ فَلَمَّا صَلَّى الإِمامُ عليه السلام العَصْرَ، أَمَرَ القَوْمَ بِالرَّحِيلِ، وَقَدْ خَطَبَ في القَوْمِ خُطْبَةً ثانِيَةً: “أَمَّا بَعْدُ، أَيُّها النَّاسُ، فَإِنَّكُمْ إِنْ تَتَّقُوا وَتَعْرِفُوا الحَقَّ لِأَهْلِهِ، يَكُنْ أَرْضَى للهِ، وَنَحْنُ، أَهْلَ البَيْتِ، أَوْلَى بِوِلايَةِ هَذا الأَمْرِ عَلَيْكُمْ، مِنْ هَؤُلاءِ المُدَّعِينَ ما لَيْسَ لَهُمْ، وَالسَّائِرِينَ فِيكُمْ بِالجَوْرِ وَالعُدْوانِ. وَإِنْ أَنْتُمْ كَرِهْتُمُونا وَجَهِلْتُمْ حَقَّنا، وَكانَ رَأْيُكُمْ غَيْرَ ما أَتَتْنِي كُتُبُكُمْ، وَقَدِمَتْ بِهِ عَلَيَّ رُسُلُكُمْ، انْصَرَفْتُ عَنْكُمْ”.

فَقالَ لَهُ الحُرُّ بْنُ يَزِيدَ: “إِنَّا وَاللهِ لا نَدْرِي ما هَذِهِ الكُتُبُ الَّتِي تَذْكُرُ؟”.

فَقالَ الحُسَيْنُ عليه السلام : “يا عُقْبَةَ بْنَ سَمْعانَ، أَخْرِجِ الخُرْجَيْنِ اللَّذَيْنِ فِيهِما كُتُبَهُمْ إِلَيَّ”.

فَأَخْرَجَ عُقْبَةُ خرْجَيْنِ مَمْلُوءَيْنِ صُحُفًا، فَنَشَرَها بَيْنَ أَيْدِيهِمْ.

فَقالَ الحُرُّ: “فَإِنَّا لَسْنا مِنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَتَبُوا إِلَيْكَ، وَقَدْ أُمِرْنا إِذا نَحْنُ لَقِيناكَ، أَلَّا نُفارِقَكَ حَتَّى نُقْدِمَكَ عَلَى عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيادٍ”.

فَأَجابَهُ الإِمامُ عليه السلام : “المَوْتُ أَدْنَى إِلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ”.

ثُمَّ قالَ لِأَصْحابِهِ: “قُومُوا فَارْكَبُوا”.

فَرَكِبُوا وَانْتَظَرُوا حَتَّى رَكِبَتِ النِّساءُ، فَطَلَبَ الإِمامُ عليه السلام إِلَى أَصْحابِهِ الانْصِرافَ، فَحالَ الحُرُّ وَجَيْشُهُ دُونَ ذَلِكَ، فَقالَ الإِمامُ‏ عليه السلام لِلْحُرِّ: “ثكَلَتْكَ أُمُّكَ، ما تُرِيدُ؟”.

فَرَدَّ الحُرُّ: “أَما وَاللهِ لَوْ غَيْرُكَ مِنَ العَرَبِ يَقُولُها لِي، وَهُوَ عَلَى مِثْلِ الحالِ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْها، ما تَرَكْتُ ذِكْرَ أُمِّهِ بِالثُّكْلِ أَنْ أَقُولَهُ، كائِنًا مَنْ كانَ، وَلَكِنْ وَاللهِ ما لِي إِلَى ذِكْرِ أُمِّكِ مِنْ سَبِيلٍ، إِلَّا بِأَحْسَنِ ما يُقْدَرُ عَلَيْهِ”.

فَقالَ الإِمامُ عليه السلام : “فَما تُرِيدُ؟”.

قالَ الحُرُّ: “أُرِيدُ وَاللهِ أَنْ أَنْطَلِقَ بِكَ إِلَى عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيادٍ”.

فَأَجابَهُ الإِمامُ عليه السلام : “إِذًا وَاللهِ لا أَتْبَعُكَ”.

فَقالَ الحُرُّ: “إِذًا وَاللهِ لا أَدَعُكَ”!

فَتَرادَّا القَوْلَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَلَمَّا كَثُرَ الكَلامُ بَيْنَهُما، قالَ الحُرُّ: “إِنِّي لَمْ أًؤْمَرْ بِقِتالِكَ، وَإِنَّما أُمِرْتُ أَنْ لا أُفارِقَكَ حَتَّى أُقْدِمَكَ الكُوفَةَ. فَإِذا أَبَيْتَ فَخُذْ طَرِيقًا لا تُدْخِلُكَ الكُوفَةَ، وَلا تَرُدُّكَ إِلَى المَدِينَةِ، لِتَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ نَصَفًا، حَتَّى أَكْتُبَ إِلَى ابْنِ زِيادٍ، وَتَكْتُبَ أَنْتَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعاوِيَةَ، إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكْتُبَ إِلَيْهِ، أَوْ إِلَى عُبَيْدِ اللهِ، إِنْ شِئْتَ؛ فَلَعَلَّ اللهَ إِلَى ذَاكَ، أَنْ يَأْتِيَ بِأَمْرٍ، يَرْزُقُنِي فِيهِ العافِيَةَ، مِنْ أَنْ أُبْتَلَى بِشَيْ‏ءٍ مِنْ أَمْرِكَ”.

الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام يُوضِحُ تَكْلِيفَ الأُمَّةِ:
سارَ رَكْبُ الإِمامِ عليه السلام ، وَالحُرُّ وَجَيْشُهُ يَسِيرُ عَلَى الطَّرَفِ الآخَرِ، حَتَّى إِذا وَصَلَ إِلَى مِنْطَقَةِ البَيْضَةِ، خَطَبَ الإِمامُ عليه السلام إِحْدَى أَهَمِّ خُطَبِهِ بِأَصْحابِهِ وَجَيْشِ الحُرِّ، وَهِيَ الخُطْبَةُ الَّتِي تَضَمَّنَتْ أَقْوَى الأَدِلَّةِ، عَلَى أَنَّ المُسْلِمِينَ جَمِيعًا أَمامَ تَكْلِيفٍ عامٍّ، بِوُجُوبِ النُّهُوضِ لِمُواجَهَةِ السُّلْطانِ الجائِرِ، المُسْتَحِلِّ لِحُرَمِ اللهِ؛ فَبَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، قالَ عليه السلام : “أَيُّها النَّاسُ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قالَ: “مَنْ رَأَى مِنْكُمْ سُلْطانًا جائِرًا، مُسْتَحِلًّا لِحُرَمِ اللهِ، ناكِثًا لِعَهْدِ اللهِ، مُخالِفًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ، يَعْمَلُ في عِبادِ اللهِ بِالإِثْمِ وَالعُدْوانِ، فَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِ بِفِعْلٍ وَلا قَوْلٍ، كانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مَدْخَلَهُ. أَلا وَإِنَّ هَؤُلاءِ، قَدْ لَزِمُوا طاعَةَ الشَّيطانِ، وَتَرَكُوا طاعَةَ الرَّحْمَنِ، وَأَظْهَرُوا الفَسادَ، وَعَطَّلُوا الحُدُودَ، وَاسْتَأْثَرُوا بِالفَيْ‏ءِ، وَأَحَلُّوا حَرامَ اللهِ، وَحَرَّمُوا حَلالَهُ، وَأَنا أَحَقُّ مَنْ غَيَّرَ، وَقَدْ أَتَتْنِي كُتُبُكُمْ، وَقَدِمَتْ عَلَيَّ رُسُلُكُمْ بِبَيْعَتِكُمْ: أَنَّكُمْ لا تُسْلِمُونِي، وَلا تَخْذُلُونِي، فَإِنَ تَمَمْتُمْ عَلَى بَيْعَتِكُمْ، تُصِيبُوا رُشْدَكُمْ.

فَأَنا الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ فاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ؛ نَفْسِي مَعَ أَنْفُسِكُمْ، وَأَهْلِي مَعَ أَهْلِكُمْ، فَلَكُمْ فِيَّ أُسْوَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا، وَنَقَضْتُمْ عَهْدَكُمْ، وَخَلَعْتُمْ بَيْعَتِي مِنْ أَعْناقِكُمْ، فَلَعَمْرِي ما هِيَ لَكُمْ بِنُكْرٍ؛ لَقَدْ فَعَلْتُمُوها بِأَبِي وَأَخِي وِابْنِ عَمِّي مُسْلِمٍ؛ وَالمَغْرُورُ مَنِ اغْتَرَّ بِكُمْ، فَحَظَّكُمْ أَخْطَأْتُمْ، وَنَصِيبَكُمْ ضَيَّعْتُمْ؛ وَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ، وَسَيُغْنِي اللهُ عَنْكُمْ. وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ”.

ثُمَّ واصَلَ رَكْبُ الإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام المَسِيرَ، وَجَيْشُ الحُرِّ يُسايِرُهُ، فَقالَ الحُرُّ لِلإِمامِ عليه السلام : “يا حُسَيْنُ، إِنِّي أُذَكِّرُكَ اللهَ في نَفْسِكَ، فَإِنِّي أَشْهَدُ لَئِنْ قاتَلْتَ لَتُقْتَلُنَّ، وَلَئِنْ قُوتِلْتَ لَتُهْلَكَنَّ فِي ما أَرَى”.

فَأَجابَهُ الإِمامُ عليه السلام : “أَبِالمَوْتِ تُخَوِّفُنِي؟ وَهَلْ يَعْدُو بِكُمُ الخَطْبُ أَنْ تَقْتُلُونِي؟ ما أَدْرِي ما أَقُولُ لَكَ؟ وَلَكِنْ أَقُولُ كَما قالَ أَخُو الأَوْسِ لِابْنِ عَمِّهِ، حِينَ لَقِيَهُ، وَهُوَ يُرِيدُ نُصْرَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ، فَقالَ لَهُ: أَيْنَ تَذْهَبُ فَإِنَّكَ مَقْتُولٌ؟ فَقالَ:
سَأَمْضِي وَما بِالمَوْتِ عارٌ عَلَى الفَتَى**إِذا ما نَوَى حَقًّا وَجاهَدَ مُسْلِما
وَواسَى الرِّجالَ الصَّالِحِينَ بِنَفْسِهِ**وَفارَق مَثْبُورًا وَخالَفَ مُجْرِما

فَلَمَّا سَمِعَ الحُرُّ ذَلِكَ مِنْهُ، تَنَحَّى عَنْهُ؛ وَكانَ يَسِيرُ بِأَصْحابِهِ في ناحِيَةٍ، وَالإِمامُ عليه السلام مِنْ ناحِيَةٍ أُخْرَى، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى عُذَيْبِ الهِجاناتِ، فَإِذا بِنَفَرٍ قَدْ أَقْبَلُوا مِنَ الكُوفَةِ، وَهُمْ: عَمْرُو بْنُ خالِدٍ الأَسَدِيُّ الصِّيداوِيُّ وَمَوْلاهُ سَعْدٌ، مَجْمَعُ بْنُ عَبْدِ اللهِ العائِذِيُّ وَابْنُهُ عائِذٌ، وَجُنادَةُ بْنُ الحَرْثِ السَّلْمانِيُّ وَمَوْلاهُ واضِحٌ التُّرْكِيُّ، وَغُلامٌ لِنافِعِ بْنِ هِلالٍ، الَّذِي التَحَقَ بِرَكْبِ الإِمامِ عليه السلام قَبْلَهُمْ، وَمَعَهُ فَرَسُ نافِعٍ؛ فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى الإِمامِ عليه السلام ، أَنْشَدُوا أَبْياتًا لِدَلِيلِهِمُ الطِّرْماحِ بِنِ عَدِيٍّ:
يا ناقَتِي لا تَذْعَرِي مِنْ زَجْرِي**وَشَمِّرِي قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ
بِخَيْرِ رُكْبانٍ وَخَيْرِ سَفْرِ**حَتَّى تُحَلَّيْ بِكَرِيمِ النَّجْرِ
الماجِدِ الحُرِّ رَحِيبِ الصَّدْرِ** أَتَى بِهِ اللهُ لِخَيْرِ أَمْرِ
ثَمَّتَ أَبْقاهُ بَقاءَ الدَّهْرِ

فَقالَ عليه السلام : “أَما وَاللهِ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ خَيْرًا، ما أَرادَ اللهُ بِنا، قُتِلْنا أَمْ ظَفِرْنا”.

فَأَقْبَلَ إِلَيْهِمُ الحُرُّ بْنُ يَزِيدَ، فَقالَ: “إِنَّ هَؤُلاءِ النَّفَرَ الَّذِينَ مِنْ أَهْلِ الكُوفَةِ، لَيْسُوا مِمَّنْ أَقْبَلَ مَعَكَ، وَأَنا حابِسُهُمْ أَوْ رادُّهُمْ”.

فَرَدَّ الإِمامُ عليه السلام قَائِلاً: “لَأَمْنَعُهُمْ مِمَّا أَمْنَعُ مِنْهُ نَفْسِي، إِنَّما هَؤُلاءِ أَنْصارِي وَأَعْوانِي، وَقَدْ كُنْتَ أَعْطَيْتَنِي أَلَّا تَعْرِضَ لِي بِشَيْ‏ٍءٍ، حَتَّى يَأْتِيَكَ كِتابٌ مِنِ ابْنِ زِيادٍ”.

فَأَجابَ الحُرُّ: “أَجَلْ، وَلَكِنْ لَمْ يَأْتُوا مَعَكَ!”.

فَأَكَّد الإِمامُ عليه السلام عَلَيْهِ: “هُمْ أَصْحابِي، وَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جاءَ مَعِي، فَإِنْ تَمَمْتَ عَلَى ما كانَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَإِلَّا ناجَزْتُكَ”.

فَكَفَّ عَنْهُمُ الحُرُّ.

وَقَدْ سَأَلَ الإِمامُ عليه السلام المُلْتَحِقِينَ بِهِ، عَنْ حالِ النَّاسِ وَراءَهُمْ، فَرَدَّ عَلَيْهِ مَجْمَعُ بْنُ عَبْدِ اللهِ العائِذِيُّ: “أَمَّا أَشْرافُ النَّاسِ، فَقَدْ أُعْظِمَتْ رَشْوَتُهُمْ، وَمُلِئَتْ غَرائِرُهُمْ؛ يُسْتَمالُ وِدُّهُمْ، وَيُسْتَخْلَصُ بِهِ نَصِيحَتُهُمْ، فَهُمْ أَلْبٌ واحِدٌ عَلَيْكَ. وَأَمَّا سائِرُ النَّاسِ، فَإِنَّ أَفْئِدَتَهُمْ تَهْوِي إِلَيْكَ، وَسُيُوفَهُمْ غَدًا مَشْهُورَةٌ عَلَيْكَ”.

فَسَأَلَهُمْ عَنْ رَسُولِهِ قَيْسِ بْنِ مُسَهَّرٍ، فَأَخْبَرُوهُ أَنْ ابْنَ زِيادٍ أَمَرَهُ أَنْ يَلْعَنَكَ وَأَبَاكَ، فَصَلَّى عَلَيْكَ وَعَلَى أَبِيكَ، وَلَعَنَ ابْنَ زِيادٍ وَأَباهُ، فَأَلْقاهُ ابْنُ زِيادٍ مِنْ عَلَى القَصْرِ.

فَتَمْتَمَ الإِمامُ بِالآيَةِ الشَّرِيفَةِ: “فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا”.

وَنَجِدُ هُنا أَنَّ الإِمامَ عليه السلام ، وَعَلَى الرُّغْمِ مِنَ الأَخْبارِ الَّتِي أَنْبَأَتْهُ، مِنْ أَكْثَرَ مِنْ جِهَةٍ، عَنْ خِذْلانِ القَوْمِ لَهُ، إِلَّا أَنَّهُ أَصَرَّ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَى الكُوفَةِ، قائِلًا: “إِنَّهُ كانَ بَيْنَنا وَبَيْنَ هَؤُلاءِ القَوْمِ قَوْلٌ، لَسْنا نَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى الانْصِرافِ”.

ذَلِكَ أَنَّهُ كانَ يُدْرِكُ، أَنَّهُ لَهُ أَنْصارٌ بِانْتِظارِهِ، أُولَئِكَ الأَنْصارُ الَّذِينَ رَمَى ابْنُ زِيادٍ بَعْضَهُمْ في السُّجُونِ، وَقَتَلَ بَعْضَهُمُ الآخَرَ.

وَقَدْ تَجَلَّتْ بِشَكْلٍ مُفْجِعٍ، أَثارُ حُبِّ الدُّنْيا، وَكَراهِيَةُ المَوْتِ في سَبِيلِ اللهِ، في لِقاءِ الإِمامِ عليه السلام مَعَ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ الحُرِّ الجُعْفِيِّ، الَّذِي دَعاهُ الإِمامُ عليه السلام لِنُصْرَتِهِ، فَأَجابَهُ: “وَاللهِ، يا ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ، لَوْ كانَ لَكَ بِالكُوفَةِ أَعْوانٌ يُقاتِلُونَ مَعَكَ، لَكُنْتُ أَشَدَّهُمْ عَلَى عَدُوِّكَ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُ شِيعَتَكَ بِالكُوفَةِ، وَقَدْ لَزِمُوا مَنازِلَهُمْ خَوْفًا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَسُيُوفِهِمْ؛ فَأُنْشِدُكَ اللهَ أَنْ تَطْلُبَ مِنِّي هَذِهِ المَنْزِلَةَ، وَأَنا أُواسِيكَ بِكُلِّ ما أَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ فَرَسِي مُلْجَمَةٌ؛ وَاللهِ، ما طَلَبْتُ عَلَيْها شَيْئًا إِلَّا أَذَقْتُهُ حِياضَ المَوْتِ، وَلا طُلِبْتُ عَلَيْها فَلُحِقْتُ، وَخُذْ سَيْفِي هَذا، فَواللهِ، ما ضَرَبْتُ بِهِ إِلَّا قَطَعْتُ”.

فَقالَ لَهُ الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام : “يا ابْنَ الحُرِّ، ما جِئْناكَ لِفَرَسِكَ وَسَيْفِكَ؛ إِنَّما أَتَيْناكَ لِنَسْأَلَكَ النُّصْرَةَ، فَإِنْ كُنْتَ قَدْ بَخُلْتَ عَلَيْنا بِنَفْسِكَ، فَلا حاجَةَ لَنا في شَيْ‏ٍءٍ مِنْ مالِكَ؛ وَلَمْ أَكُنْ بِالَّذِي اتَّخَذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا، لِأَنِّي قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ، وَهُوَ يَقُولُ: مَنْ سَمِعَ داعِيَةَ أَهْلِ بَيْتِي، وَلَمْ يَنْصُرْهُمْ عَلَى حَقِّهِمْ، إِلَا أَكَبَّهُ اللهُ عَلَى وَجْهِهِ في النَّارِ”.

وَكانَ الإِمامُ عليه السلام ، خِلالَ مَسِيرِهِ، يُعَجِّلُ الرُّكُوبَ، وَيُحاوِلُ تَفْرِيقَ أَصْحابِهِ، غَيْرَ أَنَّ الحُرَّ يَرُدُّهُمْ بِانْتِظارِ كِتابِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيادِ، الَّذِي وَصَلَ إلَيْهِ، وَالرَّكْبُ في نِينَوَى، وَفِيهِ: “أَمَّا بَعْدُ؛ فَجَعْجِعْ بِالحُسَيْنِ حِينَ يَبْلُغُكَ كِتابي، وَيُقْحِمُ عَلَيْكَ رَسُولِي، فَلا تُنْزِلْهُ إِلَّا بِالعَراءِ، في غَيْرِ حِصْنٍ، وَعَلَى غَيْرِ ماءٍ، وَقَدْ أَمَرْتُ رَسُولِي أَنْ يَلْزَمَكَ، وَلا يُفارِقَكَ حَتَّى يَأْتِيَنِي بِإِنْفاذِكَ أَمْرِي، وَالسَّلامُ”.

فَأَخَذَ الحُرُّ القَوْمَ بِالنُّزُولِ إِلَى مَكانٍ، لا ماءَ فِيهِ؛ وَطَلَبَ زُهَيْرُ بْنُ القَيْنِ مِنَ الإِمامِ، بِقِتالِ الحُرِّ وَجَيْشِهِ؛ فَرَفَضَ الإِمامُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مَنْ يَبْدَأُ القِتالَ.

أَرْضُ كَرْبَلاءُ:
وَلَمَّا وَصَلَ الرَّكْبُ إِلَى كَرْبَلاءَ، وَقَفَ فَرَسُ الإِمامِ عليه السلام ، فَنَزَلَ، وَرَكِبَ فَرَسًا أُخْرَى، فَلَمْ تَتَحَرَّكْ؛ فَسَأَلَ الإِمامُ عليه السلام عَنِ اسْمِ الأَرْضِ، فَقِيلَ لَهُ: أَرْضُ الغاضِرِيَّةِ.

فَقالَ عليه السلام : “فَهَلْ لَها اسْمٌ آخَرُ؟”.

فَأَجابُوهُ: تُسَمَّى نِينَوَى.

فَقالَ عليه السلام : “هَلْ لَها اسْمٌ غَيْرُ هَذا؟”.

قالُوا: شاطِئُ الفُراتِ.

قالَ عليه السلام : “هَلْ لَها اسْمٌ آخَرُ؟”.

قالُوا: تُسَمَّى كَرْبَلاء.

فَتَنَفَّسَ الصُّعَداءَ، ثُمَّ قالَ عليه السلام : “انْزِلُوا، ها هُنا مُناخُ رِكابِنا؛ ها هُنا تُسْفَكُ دِماؤُنا؛ ها هُنا، وَاللهِ، تُهْتَكُ حَرِيمُنا؛ ها هُنا، وَاللهِ، قَتْلُ رِجالِنا؛ ها هُنا، وَاللهِ، تُذْبَحُ أَطْفالُنا؛ ها هُنا، وَالله، تُزارُ قُبُورُنا؛ وَبِهَذِهِ التُّرْبَةِ وَعَدَنِي جَدِّي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ، وَلا خُلْفَ لِقَوْلِهِ..”.

وَكانَ يَوْمُ وُصُولِ الإِمامِ عليه السلام إِلَى كَرْبَلاءَ، في الثَّانِي مِنْ شَهْرِ مُحَرَّمٍ الحَرامِ، لِسَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ هِجْرِيَّةً؛ وَكانَ عَلَى أَغْلَبِ الرِّواياتِ، يَوْمَ الخَمِيسِ.

وَقَدْ نُصِبَتْ خِيامُ الرَّكْبِ الحُسَيْنِيِّ في البُقْعَةِ الطَّاهِرَةِ، الَّتِي لا تَزالُ آثارُها باقِيَةً إِلَى اليَوْمِ في كَرْبَلاءَ، في بُقْعَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الماءِ، تُحِيطُ بِها سِلْسِلَةٌ مَمْدُودَةٌ مِنْ تِلالٍ وَرَبْواتٍ؛ وَقَدْ ضُرِبَتْ خَيْمَةُ الإِمامِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ عليهم السلام ، ثُمَّ خِيامُ عَشِيرَتِهِ حَوْلَهُ، ثُمَّ خِيامُ بَقِيَّةِ الأَنْصارِ. وَأَحاطَ الجَيْشُ الأُمَوِيُّ بِمُعَسْكَرِ الإِمامِ عليه السلام ، حَتَّى إِنَّهُ لَمَّا أَطْلَقَ ابْنُ سَعْدٍ السَّهْمَ، الَّذِي أَنْذَرَ بِهِ بِدايَةَ القِتالِ، وَأَطْلَقَ الرُّماةُ مِنْ جَيْشِهِ سِهامَهُمْ، لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ مُعَسْكَرِ الإِمامِ عليه السلام ، إِلَّا أَصابَهُ سَهْمٌ.

مُعَسْكَرُ ابْنِ سَعْدٍ:
في اليَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ مُحَرَّمٍ، قَدِمَ عُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مِنَ الكُوفَةِ، في أَرْبَعَةِ آلافِ فارِسٍ، فَنَزَلَ نِينَوَى، وَهُناكَ انْضَمَّ إِلَيْهِ الحُرُّ بْنُ يَزِيدَ الرِّياحِيِّ في أَلْفِ فارِسٍ، فَصارَ في خَمْسَةِ آلافِ فارِسٍ.

وَقَدْ بَعَثَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ إِلَى الإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام ، عُزْرَةَ بْنَ قَيْسٍ الأَحْمَسِيَّ، لِيَسْأَلَهُ عَمَّا يُرِيدُ، فَاسْتَحْيا مِنْه أَنْ يَأْتِيَهُ، لِأَنَّهُ مِمَّنْ كَتَبَ لِلإِمامِ عليه السلام ؛ فَعَرَضَ ابْنُ سَعْدٍ ذَلِكَ عَلَى الرُّؤَساءِ، الَّذِينَ كاتَبُوهُ، فَكُلُّهُمْ أَبَى وَكَرِهَهُ؛ فَعَرَضَ كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الشِّعْبِيُّ، أَنْ يَذْهَبَ إِلَيْهِ، وَإِنْ شاءَ يَقْتُلَهُ.

وَرَأَى عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ، أَنْ يَكْتُبَ لِعُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيادٍ كِتابًا، يُبَيِّنُ لَهُ الأَوْضاعَ السَّائِدَةَ، وَكانَ فِيهِ، عَلَى رِوايَةِ الطَّبَرِيِّ: “بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنِّي حَيْثُ نَزَلْتُ بِالحُسَيْنِ، بَعَثْتُ إِلَيْهِ رَسُولِي، فَسَأَلْتُهُ عَمَّا أَقْدَمَهُ، وَماذا يَطْلُبُ وَيَسْأَلُ؟ فَقالَ: كَتَبَ إِلَيَّ أَهْلُ هَذِهِ البِلادِ، وَأَتَتْنِي رُسُلُهُمْ، فَسَأَلُونِي القُدُومَ، فَفَعَلْتُ؛ فَأَمَّا إِذا كَرِهُونِي، فَبَدا لَهُمْ ما أَتَتْنِي بِهِ رُسُلُهُمْ، فَإِنِّي مُنْصَرِفٌ عَنْهُمْ”.

فَلَمَّا وَصَلَ كِتابُ عَمَرَ إِلَى ابْنِ زِيادٍ، قالَ:
أَلآنَ إِذْ عَلِقَتْ مَخالِبُنا بِهِ**يَرْجُو النَّجاةَ، وَلاتَ حِينَ مَناصِ

وَكَتَبَ إِلَى ابْنِ سَعْدٍ: “بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. أَمَّا بَعْدُ؛ فَقَدْ بَلَغَنِي كِتابُكَ، وفَهِمْتُ ما ذَكَرْتَ، فَاعْرِضْ عَلَى الحُسَيْنِ أَنْ يُبايِعَ، لِيَزِيدَ بْنِ مُعاوِيَةَ، هُوَ وَجَمِيعُ أَصْحابِهِ، فَإِذا فَعَلَ ذَلِكَ، رَأَيْنا رَأْيَنا، وَالسَّلامُ”.

وَسُرْعانَ ما أَرْسَلَ ابْنُ سَعْدٍ رَسُولَهُ إِلَى الإِمامِ عليه السلام ، لِيَأْخُذَ مِنْهُ البَيْعَةَ، فَكانَ جَوابُ الإِمامِ عليه السلام : “لا أُجِيبُ ابْنَ زِيادٍ إِلَى ذَلِكَ أَبَدًا، فَهَلْ هُوَ إِلَّا المَوْتُ؟ مَرْحَبًا بِهِ”.

عِنْدَما عَرَفَ ابْنُ زِيادٍ بِرَدِّ الإِمامِ عليه السلام ، جَمَعَ النَّاسَ في مَسْجِدِ الكُوفَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعاوِيَةَ، قَدْ أَرْسَلَ لَهُ أَرْبَعَةَ آلافِ دِينارٍ، وَمِئَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، لِيُفَرِّقَها عَلَيْهِمْ، إِذا خَرَجُوا لِقِتالِ الإِمامِ‏ عليه السلام. وَبَقِيَ ابْنُ زِيادٍ يُرْسِلُ الجُنُودَ، حَتَّى بَلَغَ عَدَدُهُمْ ثَلاثِينَ أَلْفًا، ما بَيْنَ فارِسٍ وَراجِلٍ؛ وَخَرَجَ هُوَ غاضِبًا بِجَمِيعِ أَصْحابِهِ إِلَى النَّخِيلَةِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ قُرْبَ الكُوفَةِ.

وَالْتَأَمَتِ العَساكِرُ إِلَى عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ، لِسِتٍ مَضَيْنَ مِنَ المُحَرَّمِ.

عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ:
كانَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيادٍ قَدْ عَهِدَ مُلْكَ الرَّيِّ إِلَى عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ، عَلَى أَنْ يَقْتُلَ الحُسَيْنَ عليه السلام أَوَّلًا، ثُمَّ يَنْسَحِبَ لِعَمَلِهِ؛ وَقَدْ حارَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ في أَمْرِهِ، وَأَخَذَ يَسْتَشِيرُ نُصَحاءَهُ، فَلَمْ يَكُنْ يَسْتَشِيرُ أَحَدًا إِلَّا نَهاهُ، وَلَكِنَّ عُبَيْدَ اللهِ هَدَّدَهُ بِسَحْبِ مُلْكِ الرَّيِّ مِنْهُ، فَأَبَى ابْنُ سَعْدٍ ذَلِكَ، وَفَضَّلَ الخُرُوجَ لِقِتالِ الإِمامِ عليه السلام ، وَلَكِنَّ ابْنَ سَعْدٍ لَمْ يَنَلْ مِنِ ابْنِ زِيادٍ ما وَعَدَهُ إِيَّاهُ، عَلَى الرُّغْمِ مِنْ قِيامِهِ بِتَنْفِيذِ أَوامِرِهِ؛ فَقَدْ خَرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ عِنْدِ ابْنِ زِيادٍ، يُرِيدُ مَنْزِلَهُ إِلَى أَهْلِهِ، وَهُوَ يَقُولُ في طَرِيقِهِ: “ما رَجَعَ أَحَدٌ بِمِثْلِ ما رَجَعْتُ؛ أَطَعْتُ الفاسِقَ ابْنَ زِيادٍ، الظَّالِمَ ابْنَ الظَّالِمِ، وَعَصَيْتُ الحاكِمَ العادِلَ، وَقَطَعْتُ القَرابَةَ الشَّرِيفَةَ”. وَهَجَرَهُ النَّاسُ؛ وَكُلَّما مَرَّ عَلَى مَلَإٍ مِنَ النَّاسِ، أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَكُلَّما دَخَلَ المَسْجِدَ، خَرَجَ النَّاسُ مِنْهُ، وَكُلُّ مَنْ رَآهُ، قَدْ سَبَّهُ. فَلَزِمَ بَيْتَهُ إِلَى أَنْ قُتِلَ.

الرِّسالَةُ الأَخِيرَةُ لِلْإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام :
كانَتْ آخِرُ رَسائِلِ الإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام ، مِنْ أَرْضِ كَرْبَلاءَ إِلَى أَخِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ الحَنَفِيَّةِ، مِنْ أَقْصَرِ الرَّسائِلِ الَّتِي حَوَتْ أَرْقَى المَضامِينِ وَأَبْلَغَها: “بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنَ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَمِنْ قِبَلِهِ، مِنْ بَنِي هاشِمٍ: أَمَّا بَعْدُ؛ فَكَأَنَّ الدُّنْيا لَمْ تَكُنْ، وَكَأَنَّ الآخِرَةَ لَمْ تَزَلْ. وَالسَّلامُ”.

لَقَدْ بَيَّنَ الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام ، في رِسالَتِهِ هَذِهِ، أَرْقَى مَعْنَى لِلْمَوْتِ، وَهُوَ إِذا كانَتْ حَقِيقَةُ الدُّنْيا أَنَّ خِتامَها المَوْتُ، وَكانَ لا بُدَّ مِنْ فِراقِها، فَلْيَكُنِ الخِتامُ أَفْضَلَ الخِتامِ، وَلْتَكُنِ النِّهايَةُ أَشْرَفَ نِهايَةٍ. وَبِهَذِهِ الرِّسالَةِ يَكُونُ الإِمامُ عليه السلام قَدْ أَتَمَّ، وَأَكْمَلَ رِسالَتَهُ لِمُحَمَّدِ بْنِ الحَنَفِيَّةِ، وَالَّتِي أَرْسَلَها مِنْ مَكَّةَ، وَهِيَ: “مَنْ لَحِقَ بِيَ اسْتُشْهِدَ…”.

خُطْبَةُ الإِمامِ عليه السلام الأُولَى في أَصْحابِهِ:
لَمَّا أَيْقَنَ الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام أَنَّ القَوْمَ قاتِلُوهُ، جَمَعَ أَصْحابَهُ، وَقامَ بِهِمْ خَطِيبًا؛ فَبَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، قالَ: “قَدْ نَزَلَ بِنا ما تَرَوْنَ مِنَ الأَمْرِ، وَإِنَّ الدُّنْيا قَدْ تَغَيَّرَتْ وَتَنَكَّرَتْ، وَأَدْبَرَ مَعْرُوفُها؛ أَلا تَرَوْنَ أَنَّ الحَقَّ لا يُعْمَلُ بِهِ، وَأَنَّ الباطِلَ لا يُتَناهَى عَنْهُ؛ لَيَرْغَبُ المُؤْمِنُ في لِقاءِ اللهِ؛ وَإِنِّي لا أَرَى المَوْتَ إِلَّا سَعادَةً، وَالحَياةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إِلَّا بَرَمًا”.

حَبِيبُ بْنُ مُظاهِرٍ، وَقَبِيلَةُ بَنِي أَسَدٍ:
بَقِيَ جَيْشُ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ يُحاصِرُ الإِمامَ عليه السلام ، حَتَّى السَّادِسِ مِنْ مُحَرَّمٍ؛ فَجاءَ حَبِيبُ بْنُ مُظاهِرٍ الأَسَدِيُّ إِلَى الإِمامِ عليه السلام ، وَاسْتَأْذَنَهُ في أَنْ يَقْصِدَ بَنِي عَشِيرَتِهِ، يَسْتَنْصِرُهُمْ، فَأَذِنَ لَهُ؛ فَسارَ في جَوْفِ اللَّيْلِ إِلَيْهِمْ، فَلَبَّوُا النِّداءَ، وَسارَ مَعَ حَبِيبٍ تِسْعُونَ رَجُلًا، يُرِيدُونَ الإِمامَ عليه السلام ، غَيْرَ أَنَّ رَجُلًا صارَ إِلَى عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ، وَأَخْبَرَهُ بِشَأْنِ القَوْمِ؛ فَما إِنْ وَصَلَ حَبِيبٌ وَقَوْمُهُ إلى شاطِئِ الفُراتِ، فَإِذْ بِعَسْكَرِ ابْنِ سَعْدٍ يَسْتَقْبِلُهُمْ؛ فَتَقاتَلَ الطَّرَفانِ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ، حَتَّى عَرَفَ بَنُو أَسَدٍ أَنْ لا طاقَةَ لَهُمْ بِجَيْشِ ابْنِ سَعْدٍ، فَانْهَزَمُوا، وَعادُوا إِلَى مَكانِهِمْ، وَرَجَعَ حَبِيبٌ إِلَى الإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام وَحِيدًا.

ابْنُ سَعْدٍ يَمْنَعُ الماءَ عَنْ مُخَيَّمِ الإِمامِ عليه السلام :
في اليَوْمِ السَّابِعِ مِنَ المُحَرَّمِ، حالَتْ خُيُولُ جَيْشِ بْنِ سَعْدٍ بَيْنَ الإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام وَأَصْحابِهِ، وَبَيْنَ الماءِ، فَأَضَرَّ العَطَشُ بِهِمْ.

وَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَى الإِمامِ عليه السلام وَأَصْحابِهِ العَطَشُ، دَعا أَخاهُ العَبَّاسَ اْبْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالِبٍ عليه السلام ، فَبَعَثَهُ في ثَلاثِينَ فارِسًا، وَعِشْرِينَ راجِلًا، وَبَعَثَ مَعَهُمْ بِعِشْرِينَ قِرْبَةً، فَجاؤُوا حَتَّى دَنَوْا مِنَ الماءِ لَيْلًا، وَاسْتَقْدَمَ أَمامَهُمْ نافِعَ بْنَ هِلالِ الجَمَلِيَّ، فَمَنَعَهُمْ عَمْرُو بْنُ الحَجَّاجِ في خَمْسِمائَةِ راكِبٍ، فَاقْتَتَلُوا، وَاقْتَحَمَ رِجالُ الإِمامِ عليه السلام ، فَمَلَأُوا قِرَبَهُمْ، وَوَقَفَ العَبَّاسُ‏ عليه السلام في أَصْحابِهِ، يَذُبُّونَ عَنْها حَتَّى أَوْصَلُوا الماءَ إِلَى عَسْكَرِ الإِمامِ عليه السلام.

المُحاوَرَةُ بَيْنَ الإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام ، وَبَيْنَ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ:
أَرْسَلَ الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام إِلَى عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ يَقُولُ: “إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُكَلِّمَكَ، فَالْقَنِي اللَّيْلَةَ بَيْنَ عَسْكَرِي وَعَسْكَرِكَ”.

فَخَرَجَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ في عِشْرِينَ فارِسًا، وَأَقْبَلَ الحُسَيْنُ عليه السلام في مِثْلِ ذَلِكَ؛ فَلَمَّا الْتَقَيا، أَمَرَ الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام أَصْحابَهُ، فَتَنَحَّوْا عَنْهُ، وَبَقِيَ مَعَهُ أَخُوهُ العَبَّاسُ عليه السلام ، وَابْنُهُ عَلِيٌّ الأَكْبَرُ؛ ثُمَّ أَمَرَ عُمَرُ أَصْحابَهُ بِالتَّنَحِّي، وَبَقِيَ مَعَهُ ابْنُهُ حَفْصٌ، وَغُلامُهُ لاحِقٌ.

فَقالَ الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام : “وَيْحَكَ، يا ابْنَ سَعْدٍ؛ أَما تَتَّقِي اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ مَعادُكَ، أَنْ تُقاتِلَنِي، وَأَنا ابْنُ مَنْ عَلِمْتَ، يا هَذا، مِنْ رَسُولِ اللهِ‏ صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فَاتْرُكْ هَؤُلاءِ، وَكُنْ مَعِي، فَإِنِّي أَقْرَبُكَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ”.

فَقالَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ: أَبا عَبْدِ اللهِ، أَخافُ أَنْ تُهْدَمَ دارِي.

فَأَجابَ الإِمامُ عليه السلام : “أَنا أَبْنِيها لَكَ”.

فَقالَ ابْنُ سَعْدٍ: أَخافُ أَنْ تُؤْخَذَ ضَيْعَتِي.

فَقالَ الإِمامُ عليه السلام : “أَنا أُخْلِفُ عَلَيْكَ خَيْرًا مِنْها، مِنْ مالِي بِالحِجازِ”.

فَقالَ ابْنُ سَعْدٍ: لِي عِيالٌ أَخافُ عَلَيْهِمْ.

فَأَجابَهُ الإِمامُ عليه السلام : “أَنا أَضْمَنُ سَلامَتَهُمْ”.

فَلَمْ يُجِبْ عُمَرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ الإِمامُ عليه السلام ، وَعادَ ابْنُ سَعْدٍ إِلَى مُعَسْكَرِهِ.

لا شَكَّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ، كَغَيْرِهِ مِنْ مُعْظَمِ جَيْشِ ابْنِ زِيادٍ؛ كانَ يَعْلَمُ يَقِينًا بِأَحَقِّيَّةِ الإِمامِ عليه السلام بِهَذا الأَمْرِ، كَما كانَ يَعْلَمُ بِما لا يَرْتابُ فِيهِ بِالعارِ العَظِيمِ، وَبِالسُّقُوطِ الفَظِيعِ، الَّذِي سَيَلْحَقُهُ مَدَى الدَّهْرِ، إِذا ما قَتَلَ الإِمامَ عليه السلام في هَذِهِ المُواجَهَةِ، الَّتِي صارَ هُوَ فِيها عَلَى رَأْسِ الجَيْشِ، وَلَكِنَّهُ في باطِنِهِ أَيْضًا، أَسِيرُ رَغْبَتِهِ الجامِحَةِ في وِلايَةِ الرَّيِّ وَنَعْمائِها؛ مِنْ هُنا، فَقَدْ سَعَى إِلَى أَنْ يَجِدَ المَخْرَجَ مِنْ هَذِهِ الوَرْطَةِ، فَيُعافَى مِنِ ارْتِكابِ جَرِيمَةِ قَتْلِ الإِمامِ عليه السلام ، وَلا يَخْسَرَ أُمْنِيَّتَهُ في وِلايَةِ الرَّيِّ.

أُكْذُوبَةُ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ:
بَعْدَ لِقائِهِ مَعَ الإِمامِ عليه السلام ، كَتَبَ ابْنُ سَعْدٍ إِلَى ابْنِ زِيادٍ كِتابًا، هَذَا نَصُّهُ: “أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ أَطْفَأَ النَّائِرَةَ، وَجَمَعَ الكَلِمَةَ، وَأَصْلَحَ أَمْرَ الأُمَّةِ. هَذا حُسَيْنٌ، قَدْ أَعْطانِي أَنْ يَرْجِعَ إِلَى المَكانِ، الَّذِي مِنْهُ أَتَى، أَوْ نُسَيِّرَهُ إِلَى أَيِّ ثَغْرٍ مِنْ ثُغُورِ المُسْلِمِينَ شِئْنا، أَوْ يَأْتِيَ يَزِيدَ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، فَيَضَعَ يَدَهُ في يَدِهِ…”.

لَقَدْ أَرادَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ هَذِهِ الرِّسالَةِ الكاذِبَةِ، أَنْ يَتَمَلَّصَ مِنْ قَتْلِ الإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام ، بِطَرِيقَةٍ لا يَخْسَرُ فِيها مُلْكَ الرَّيِّ، وَلَكِنَّ ابْنَ زِيادٍ، لَمَّا عَرَفَ بِأَمْرِ لِقاءِ الإِمامِ عليه السلام مَعَ ابْنِ سَعْدٍ، أَشارَ عَلَيْهِ شِمْرُ بْنُ ذِي الجَوْشَنِ، بِأَنْ يَأْخُذَ مَوْقِفًا حازِمًا في هَذا المَوْضُوعِ، فَأَرْسَلَهُ، وَمَعَهُ كِتابٌ لِابْنِ سَعْدٍ، جَاءَ فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي لَمْ أَبْعَثْكَ إِلَى حُسَيْنٍ لِتَكُفَّ عَنْهُ، وَلا لِتُطاوِلَهُ، وَلا لِتُمَنِّيَهُ السَّلامَةَ وَالبَقاءَ، وَلا لِتَقْعُدَ لَهُ عِنْدِي شافِعًا. انْظُرْ فَإِنْ نَزَلَ حُسَيْنٌ وَأَصْحابُهُ عَلَى الحُكْمِ، وَاسْتَسْلَمُوا، فَابْعَثْ بِهِمْ إِلَيَّ سُلَّمًا. فَإِنِ أَبَوْا، فَازْحَفْ إِلَيْهِمْ حَتَّى تَقْتُلَهُمْ، وَتُمَثِّلَ بِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لِذَلِكَ مُسْتَحِقُّونَ؛ فَإِنْ قُتِلَ الحُسَيْنُ، فَأَوْطِئِ الخَيْلَ صَدْرَهُ وَظَهْرَهُ.

فَأَقْبَلَ شِمْرُ بْنُ ذِي الجَوْشَنِ بِكِتابِ عُبَيْدِ اللهِ، إِلَى عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ؛ فَلَمَّا قَرَأَهُ، قالَ عُمَرُ: ما لَكَ؟ وَيْلَكَ، لا قَرَّبَ اللهُ دارَكَ، وَقَبَّحَ ما قَدِمْتَ بِهِ عَلَيَّ؛ وَاللهِ، إِنِّي لَأَظُنُّكَ أَنْتَ ثَنَيْتَهُ أَنْ يَقْبَلَ ما كَتَبْتُ بِهِ إِلَيْهِ، أَفْسَدْتَ عَلَيْنا أَمْرًا، كُنَّا رَجَوْنا أَنْ يَصْلُحَ، لا يَسْتَسْلِمُ وَاللهِ الحُسَيْنُ، إِنَّ نَفْسًا أَبِيَّةً لَبَيْنَ جَنْبَيْهِ.

بَذْلُ الأَمانِ لِأَبِي الفَضْلِ عليه السلام ، وَإِخْوَتِهِ:
بَذَلَ الشِّمْرُ بْنُ ذِي الجَوْشَنِ الأَمانَ، لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالِبٍ عليه السلام ، وَإِخْوَتِهِ مِنْ أُمِّهِ، أُمِّ البَنِينَ؛ وَكانَ هَدَفُ ابْنِ زِيادٍ وَالأُمَوِيِّينَ، فَصْلَهُمْ عَنْ سَيِّدِ الشُّهَداءِ؛ فَجاءَ الشِّمْرُ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى أَصْحابِ الإِمامِ عليه السلام ، فَقالَ: أَيْنَ بَنُو أُخْتِنا؟

فَخَرَجَ إِلَيْهِ العَبَّاسُ عليه السلام ، وَجَعْفَرٌ، وَعَبْدُ اللهِ، وَعُثْمانُ، بَنُو عَلِيِّ اْبْنِ أَبِي طالِبٍ عليه السلام ، فَقالُوا لَهُ: “ما تُرِيدُ؟”.

فَقالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ آمِنُونَ.

فَقالُوا لَهُ: “لَعَنَكَ اللهُ، وَلَعَنَ أَمانَكَ؛ أَتُؤَمِّنُنا، وَابْنُ رَسُولِ اللهِ لا أَمانَ لَهُ؟!”.

التَّاسِعُ مِنَ المُحَرَّمِ:
في التَّاسِعِ مِنَ المُحَرَّمِ، نادَى عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ: يا خَيْلَ اللهِ، ارْكَبِي، وَأَبْشِرِي.

فَرَكِبَ الجَمِيعُ، ثُمَّ زَحَفَ ابْنُ سَعْدٍ نَحْوَ مُعَسْكَرِ الإِمامِ عليه السلام ، بَعْدَ صَلاةِ العَصْرِ، وَالإِمامُ عليه السلام جالِسٌ أَمامَ خَيْمَتِهِ، مُحْتَبٍ بِسَيْفِهِ، وَقَدْ أَخَذَتْهُ إِغْفاءَةٌ.

وَسَمِعَتْ أُخْتُهُ زَيْنَبُ عليها السلام الصَّيْحَةَ، فَدَنَتْ مِنْ أَخِيها، فَقالَتْ: “يا أَخِي، أَما تَسْمَعُ الأَصْواتَ قَدِ اقْتَرَبَتْ؟”.

فَرَفَعَ الإِمامُ عليه السلام رَأْسَهُ، قائِلًا: “إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم في المَنامِ، فَقالَ لِي: إِنَّكَ تَرُوحُ إِلَيْنا”.

ثُمَّ طَلَبَ مِنْ أَخِيهِ العَبَّاسِ عليه السلام أَنْ يَسْتَقْبِلَهُمْ في نَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ فارِسًا، فِيهِمْ زُهَيْرُ بْنُ القَيْنِ، وَحَبِيبُ بْنُ مُظاهِرٍ، فَفَعَلَ العَبَّاسُ عليه السلام ، وَخاطَبَ القَوْمَ: “ما بَدا لَكُمْ، وَما تُرِيدُونَ؟”.

قالُوا: جاءَ أَمْرُ الأَمِيرِ، بِأَنْ نَعْرِضَ عَلَيْكُمْ، أَنْ تَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِهِ أَوْ نُنازِلَكُمْ.

فَأَجابَ عليه السلام : “فَلا تَعْجَلُوا، حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ، فَأَعْرِضَ عَلَيْهِ ما ذَكَرْتُمْ”.

فَوَقَفُوا، وَرَجَعَ العَبَّاسُ عليه السلام إِلَى الإِمامِ عليه السلام يُخْبِرُهُ، فِيما بَقِيَ أَصْحابُهُ مَكانَهُمْ؛ وَقَدْ تَحَدَّثَ حَبِيبُ بْنُ مُظاهِرٍ مَعَ القَوْمِ لِيُحاجِجَهُمْ، إِلَى أَنْ جاءَ العَبَّاسُ عليه السلام راكِضًا، حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِمْ، فَقالَ: “يا هَؤُلاءِ، إِنَّ أَبا عَبْدِ اللهِ يَسْأَلُكُمْ، أَنْ تَنْصَرِفُوا هَذِهِ العَشِيَّةَ، حَتَّى يَنْظُرَ في هَذا الأَمْرِ، فَإِنَّ هَذا أَمْرٌ لَمْ يَجْرِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ فِيهِ مَنْطِقٌ، فَإِذا أَصْبَحْنا الْتَقَيْنا، إِنْ شاءَ اللهُ، فَإِمَّا رَضِيناهُ، فَأَتَيْنَا بِالأَمْرِ الَّذِي تَسْأَلُونَهُ وَتَسُومُونَهُ، أَوْ كَرِهْنا فَرَدَدْناهُ”.

فَقالَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ: ما تَرَى، يا شِمْرُ؟

فَأَجابَ شِمْرٌ: ما تَرَى أَنْتَ؟ أَنْتَ الأَمِيرُ، وَالرَّأْيُ رَأْيُكَ؟

فَأجابَ عُمَرُ: قَدْ أَرَدْتُ أَلَّا أَكُونَ…

فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، وَنادَى: ماذا تَرَوْنَ؟

فَأَجابَ عَمْرُو بْنُ الحَجَّاجِ بْنِ سَلَمَةَ الزُّبَيْدِيُّ: سُبْحانَ اللهِ؛ وَاللهِ، لَوْ كانُوا مِنَ ال

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل