Search
Close this search box.

كيف نتعامل مع ’الإشاعات’؟.. حلول قرآنية

كيف نتعامل مع ’الإشاعات’؟.. حلول قرآنية

الإشاعات وسبل معالجتها من المنظور القرآني

الإشاعة والشائعة تُستعمل لغة في: “الخبر ينتشر من دون التثبّت فيه” (1) وقيل في معناها أيضاً: “خبرٌ مكذوبٌ غير موثوق فيه وغير مؤكَّد، ينتشر بين النَّاس” (2) فكما تُستَعمَل في الخبر الذي لا أساس له، تُستَعمَل أيضا فيما يتمّ تضخيمه وإخراجه عن حجمه الواقعي.

وهي ظاهرةٌ لا ينفكّ عنها مجتمع ما دامت ثمَّة قِوى واتجاهات مختلفة تتجاذبه، بَيْدَ أنّ تأثيرها يتناسب عكسا مع درجة الوعي والثقافة في المجتمع.

وبما أنَّ القرآن الكريم قد أَخَذَ في جملة أهمّ مقاصده بناء مجتمعٍ متماسكٍ بما يتناسب مع مهمة الاستخلاف في الأرض التي أنيطت بالإنسان نلاحظ أنّه قد اهتمّ بالتحذير من كثير من الأمراض التي تصيب بنيَة المجتمع ومنها الاشاعات التي إذا ما تفشّت في مجتمعٍ آلَ أمره إلى الضعف والاضمحلال. وفي هذه الورقة الموجزة نقف على أهمّ تلك التدابير التي نبَّه عليها الكتاب الكريم في هذا الصدد، والكلام في نقطتين.

أولاً: حرمة بثّ الإشاعات والوعيد عليه

للوعيد أثرٌ نفسيٌ شديد في الزجر عن الاتيان بالفعل الذي تعلّقَ به، وهو أحد السبُل التي اتبعها القرآن الكريم في تنفير الناس من الرذائل وكلّ ما يضرّ بالإنسان والمجتمع الإنساني، والتي منها بث الشائعات ومن الآيات التي جاءت في هذا السياق:

1- قوله تعالى: “إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ” (النور/15).

فالإشاعة في المقام الأوَّل هي ترويجٌ لقولٍ بلا علمٍ أي من دون معرفة مصادره والتدبّر في مقاصده وفي هذه الآية ردعٌ صريح ينطوي على بيان مدى قبح التقوّل على الناس من دون التثبُّت والتأكّد من صحّة الخبر، وهو المراد من قوله عزّ وجلّ: “إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ” فتقييد “التَلَقي بالألسنة للدلالة على أنّه كان “مجرد انتقالٍ للقول من لسانٍ إلى لسان من غير تثبّتٍ وتدبرٍ فيه” (3) فيكون العطف في قوله: “وتقولون..” من قبيل عطف التفسير وقد قيّده أيضاً بقوله: “بأفواهكم..” للتأكيد على كونه انتقال من دون دراية ومعرفة.

ولمّا كانت الاشاعة قولاً لا واقع له وإنّما محض اختلاق تتداوله الألسنة فهي بهتان وهو عند الله تعالى عظيم.

2- قوله تعالى: ” لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ “ (التوبة/47).

أي لو خَرَجت هذه الجماعة مع المسلمين الى الجهاد لم يكن لها من عملٍ سوى الحرص على إفشالهم وفساد أمرهم بواسطة النميمة والتهويل وبث الإشاعات والدعايات في صفوفهم، فمن الخَبال اضطراب الرأي ” بتزيين أمرٍ لقومٍ وتقبيحه لآخرين ليختلفوا وتفترق كلمتهم” (4) وهذا ضربٌ من الإشاعات كما سبق بيانه في تعريفها.

وذَيل الآية دليلٌ على أنّ هؤلاء الذين يُعِيرون آذانهم لتلك الإشاعات من دون معرفة وعلمٍ ظالمون (5) وتقريب ذلك أنّهم إنّما يظلمون أنفسهم بقبولهم لما هو خلاف الواقع وأيضا يظلمون مجتمعاتهم بإشاعة الجهل فيها.

وفي الكتاب الكريم نصوص أخرى في التحذير من الإشاعات نتركها اختصارا.

ثانياً: منهج القرآن الكريم في معالجة الشائعات

من خلال تتبع النص القرآني يمكن رصد مجموعة من الآليات التي تَعامَل في ضوئها مع موضوع الشائعات وهي تتكامل مع بعضها ولا يكفي الأخذ بكلّ واحدة منها على حدة ومنها..

1- منهج نقد المصادر

قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ” (الحجرات:6).

فمن أهمّ وسائل مواجهة الاشاعات منهج نقد المصادر والذي يعدّ نقداً خارجياً يبتني على تجاوز المضمون بتسليط النظر على مَنشئِه لاستبانة أكبر قدر ممكن من القرائن الخارجيّة التي يمكن أن ترجِّح صدقه أو كذبه، ومن ثمّ يكون المعيار في قبوله في هذه المرحلة مبني على أساس رصانة المَصدر، ولا يخفى أنّ العلاقة بينهما في المسائل النقليّة طرديّة.

والآية الكريمة تُرشد إلى ضرورة التبيّن وعدم التسرّع في قبول خبر الفاسق الذي لا رادع له عن الكذب من دون التثبُّت منه، أي التوقّف في قبوله والتأني حتى تَثبت حقيقته (6) وهي في الواقع بمثابة إمضاء لما جرت عليه السيرة العقلائيّة “من عدم حجية الخبر الذي لا يوثق بمن يُخبر به وعدم ترتيب الأثر على خبره ” (7).

والذي يجدر التنبيه عليه هنا أنّه كلّما ازدادت مخاطر وتبعات الأخذ بالمضمون تزداد بنسبة مساوية أهميّة التثبّت وضرورته حتى إنْ كان احتمال مخالفة الخبر للواقع ضعيفاً وذلك لأنّ قيمة الاحتمال لا تبتني على درجة وضوحه وكاشفيته فقط وإنما يُراعى فيها الموازنة بينها وبين قيمة المحتمَل فمثلاً نرى العقلاء يتجنبون ما يحتملون ترتب الضرر البليغ عليه وإن كان احتمالاً ضعيفا وليس ذلك منهم إلّا اعتداداً بخطورة المحتمَل ومن هنا علَّلت الآية الكريمة ضرورة التثبت بقوله تعالى: { تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } فإصابة قومٍ أبرياء واضحٌ أنّها ليست لازماً لا ينفكّ عن خبر الفاسق لكنّها تصلح مقتضياً لضرورة التثبت من جهة خطورة الأثر المترتب عليها لو وقَعَت.

2- منهج نقد المضمون

قال تعال: ” الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ “ (الزمر:18).

وهذا هو المنهج الآخر المعتَمَد قرآنيا في مواجهة الشائعات وهو يقوم على أساس نقد مضمون الخبر بالفحص عن وجود التهافت فيه او وجود ما يمنع من صحّته عقلاً او نقلاً او وجود قرائن تُضعِّف النسبة الاحتماليّة لصدقه، بل صريح الآية الذهاب الى أبعد من ذلك حيث جعلت المعيار في الأخذ بالمضمون تمييزه الى قبيحٍ وحَسَنٍ وأحسَن، وأنّ الذي ينبغي الأخذ به واشاعته هو خصوص القسم الثالث فالله تعالى يريد من المؤمنين أن يكونوا ” نُقّاداً في الدين يميزون بين الحَسَن والأحسَن “(8).

ومن المعلوم أن الحُسن في القول غير موقوف على مادته في نفسها فقط بل يدخل في ذلك الأثر والغرض الذي يبتغيه القائل وهو ما يعرف بالحسن الفاعلي فهو دخيل في صدق الحسن على اشاعة المضمون ولعله الى هذه النكتة أشار تعالى في قوله ” وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ” (البقرة: 83) بتقريب أنّ (حُسناً) جاءت بضمّ أوَّلها بدلاً من فتحه للدلالة على المبالغة، وهذا المنهج يتكامل مع منهج نقد المصادر وليس في قباله.

3- ضرورة الرجوع الى أهل العلم والخبرة

قال تعالى: ” وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا “ (النساء: 83).

فالرجوع الى أصحاب العلم والمعرفة فضلاً عن كونه ضرورة عقلية من جهة حكم العقل بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم هو أيضا يمثل ضمانة لتحصين المجتمع من الانسياق وراء كل شاردة وواردة من الاشاعات التي تعصف بالناس، وذلك من حيث أن أهل العلم يمثلون جهة قادرة على التعامل مع هذه الأخبار من جهة امتلاكهم الادوات العلميّة والمعرفيّة اللازمة لتفكيك المضمون ونقد المصادر.

4- ضرورة ردع مثيري الإشاعات في المجتمع

وهذا إجراءٌ تدبيري يعالجُ الإشاعة من خلال تجفيف منابعها في ضوء مجموعة تدابير إجرائية يُلقى بعضها على عاتق السلطات الرسميّة المعنيّة بحفظ مصالح المجتمع العامّة كتعزير من يعمل على ابتداع الاشاعات وافشائها مع مراعاة ظرفها وحجم تداعياتها وما تقتضيه المصلحة العامّة، بينما يكون بعضها الآخر من تكاليف عامّة أفراد المجتمع كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مراتبه الدنيا التي لا تتطلب إذناً من الحاكم الشرعي، وعموماً من الاجراءات التي ذكرها القرآن الكريم في هذا الصدد:

بما أنّ الإشاعة كَذِب وبهتان لا واقع له، يُراد به السوء بالمجتمع فلا شكّ في كون النهي عنها من مصاديق النهي عن المنكر الذي هو واجب على جميع أفراد المجتمع بشرطه وشروطه، قال تعالى: “كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ” (آل عمران:110).
ومن التدابير التي تُناط بعامّة المجتمع ضرورة عدم الاهتمام بآراء مثيري الاشاعات والإعراض عنهم قال تعالى في صفة المؤمنين: “وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ “ (القصص:55)، إذ من معاني اللغو: الكلام الباطل (9).

هذا ما اقتضاه المقام بإيجازٍ، ويمكن القول أنّها مفاتيح يمكن الانطلاق منها لبحث القضيّة بحثاً موسعاً لمن يجد في نفسه ما يلزم لذلك والله تعالى وليّ التوفيق والحمد لله رب العالمين.

الهوامش

ظ: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة:1/503.
معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار:2/ 1257.
الميزان في تفسير القرآن: 15/ 92.
البيان في تفسير القرآن:9/278 حكاه عن الفراء.
ظ: مفاهيم القرآن، الشيخ السبحاني:5/449.
ظ: مجمع البيان:9/221.
الميزان في تفسير القرآن:18/311.
جوامع الجامع:3/214.
ظ: العين، الخليل الفراهيدي:4/449.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل