Search
Close this search box.

استشهاد الإمام موسى الكاظم عليه السلام

استشهاد الإمام موسى الكاظم عليه السلام

اتفق المؤرخون أن الإمام لم يمت حتف أنفه، وإنما توفي مسموماً، وإن هارون الرشيد هو الذي أوعز في دسّ السم واغتياله، لكنهم اختلفوا فيمن تولّى ذلك.

فمنهم من قال: يحيى بن خالد ومنهم من قال: الفضل بن يحيى لكن الأول أقرب إلى الحقيقة، لأن الفضل عرف بميله للعلويين وقد رفّه على الإمام حينما كان في سجنه فاستحق بذلك التنكيل والتشهير من قبل هارون.

أن يحيى بن خالد دسّ السمّ إلى الإمام في رطب وعنب فقتله. ومما يؤيد ذلك ما رواه عبد الله بن طاووس قال: سألت الإمام الرضا (عليه السلام) قلت له: هل أن يحيى بن خالد سمّ أباك موسى بن جعفر؟

فقال الإمام: نعم سمّه في ثلاثين رطبة مسمومة.

وذكر أبو الفرج الأصفهاني أن الرشيد لما غضب على الفضل بن يحيى لترفيهه على الإمام حينما كان في سجنه، وأمره بجلده خرج يحيى من عند الرشيد وقد ماج الناس واضطرب أمرهم، فجاء إلى بغداد ودعا السندي بن شاهك وأمره بقتل الإمام (عليه السلام)، فاستدعى السندي الفراشين وكانوا من النصارى فأمرهم بلفّ الإمام في بساط فلفّ وهو حي فجلس عليه الفرّاشون حتى توفي.

وذكر ابن المهنا أن الرشيد لما سافر إلى الشام أمر يحيى بن خالد السندي بقتله فقتله. وهذه الروايات على اختلافها تفيد أن يحيى هو الذي أمر بقتل الإمام (عليه السلام) ولكنه المخالفة لما عليه الجمهور في أن الرشيد عهد إلى السندي بقتله.

كيفية سمّه

المشهور عند أكثر الرواة أن الرشيد عمد إلى رطب فوضع فيه سماً فاتكاً وأمر السندي أن يقدمه إلى الإمام ويحتم عليه أن يتناول منه وقيل أن الرشيد أوعز إلى السندي في ذلك. فأخذ رطباً ووضع فيه السم وقدمه للإمام فأكل منه عشر رطبات، فقال له السندي: (زد على ذلك) فرمقه الإمام بطرفه وقال له:

(حسبك قد بلغت ما تحتاج إليه).

ولما تناول الإمام (عليه السلام) تلك الرطبات المسمومة تسمم بدنه، وأخذ يعاني آلاماً مبرحة وأوجاعاً قاسية، وأحاط به الأسى والحزن، قد حفّت به الشرطة القساة، ولازمه الوغد الخبيث السندي بن شاهك فكان يسمعه في كل فترة أخشن الكلام وأغلظه، ومنع عنه جميع الإسعافات ليجعل له النهاية المحتومة، لقد عانى الإمام العظيم في تلك الفترة الرهيبة ما لم يعانه أي إنسان، فتكبيل بالقيود وأذى مرهق، وآلام السم قطعت أوصاله وأذابت قلبه، والحزن الشديد الذي أثر فيه تأثيراً عميقاً لانتهاك حرمته، وغربته عن أهله وعدم مشاهدة أعزائه وأحبائه، وقد أشرف على مفارقة هذه الدنيا.

رعب وخوف واضطراب

أقدم السندي الخبيث الذي باع ضميره للشيطان على ارتكاب الجريمة الخطيرة، فدبّ الرعب في قلبه واضطرب اضطراباً شديداً وخوفاً بالغاً من المسؤولية إمام الشيعة العلويين. فيا لهول المصيبة إمام معصوم ابن إمام معصوم، ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تنتهك حرمته ويقيد بالحديد والأغلال ويهان في السجن ويوكل بحراسته أشرار لئام ثم يدسّون له السم في السجن، فإنها لجريمة نكراء وأي جريمة!! فماذا يعمل السندي بعد فعلته هذه؟!

استدعى الوجوه والشخصيات المعروفة في مجتمعه إلى قاعة السجن وكانوا ثمانين شخصاً، كما حدث بذلك بعض شيوخ العامة يقول: أحضرنا السندي، فلما حضرنا، انبرى إلينا فقال:

(أنظروا إلى هذا الرجل هل حدث به حدث؟ فإن الناس يزعمون أنه قد فعل به مكروه، ويكثرون من ذلك، وهذا منزله وفراشه موسع عليه غير مضيق، ولم يرد به أمير المؤمنين ـ يعني هارون ـ سوءاً وإنما ينتظره أن يقدم فيناظره، وها هوذا موسع عليه في جميع أموره) يقول ذلك الشيخ: ولم يكن لنا همّ سوى مشاهدة الإمام ومقابلته فلما دنونا منه لم نرَ مثله قط في فضله ونسكه وتقواه فانبرى إلينا وقال لنا: (أما ما ذكر من التوسعة، وما أشبه ذلك، فهو على ما ذكر، غير أني أخبركم أيها النفر أني قد سقيت السم في تسع تمرات، وإني أصفر غداً وبعد غدٍ أموت).

ولما سمع السندي ذلك انهارت أعــصابه، ومشــت الرعـــدة بأوصاله واضــــطرب مثل السعفة التي تلعب بها الرياح العاصفة.

لقد أفسد عليه الإمام (عليه السلام) بشهادته هذه ما كان يرومه من الحصول على البراءة من المسؤولية في قتله.

إلى جنّة المأوى

في اليوم الثالث سرى السم في جميع أجزاء جسم الإمام الطّاهر (عليه السلام) فأخذ يعاني اشد الآلام وأقسى الأوجاع، وقد علم (عليه السلام) أن لقاءه بربه أصبح قريباً فاستدعى السندي وطلب إليه أن يحضر مولى له ينزل عند دار العبّاس بن محمد بن مشرعة القصب ليتولى غسله، وسأله السندي أن يأذن له في تكفينه فأبى (عليه السلام) وقال:

(إنا أهل بيت مهور نسائنا وحجّ صيرورتنا وأكفان موتانا من طاهر أموالنا وعندي كفني).

أحضر له السندي مولاه الذي طلبه، ولما ثقل حال الإمام (عليه السلام) مع وأشرف على النهاية المحتومة وأخذ يعاني زفرات الموت، استدعى المسيّب بن زهرة وقال له: (إني على ما عرفتك من الرحيل إلى الله عزّ وجلّ فإذا دعوت بشربة ماء وشربتها ورأيتني قد انتفخت، واصفرّ لوني واحمرّ واخضرّ وتلوّن ألواناً فأخبر الطاغية هارون بوفاتي) قال المسيّب:

فلم أزل أراقب وعده حتى دعا (عليه السلام) بشربة فشربها ثم استدعاني فقال لي:

(يا مسيّب إن هذا الرجس السندي بن شاهك سيزعم أنه تولى غسلي ودفني، وهيهات هيهات أن يكون ذلك أبداً، فإذا حملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدوني بها، ولا ترفعوا قبري فوق أربعة أصابع مفرجات، ولا تأخذوا من تربتي شيئاً لتتبركوا به، فإن كل تربة لنا محرمة إلا تربة جدي الحسين بن علي (عليه السلام) فإن الله عزّ وجلّ جعلها شفاء لشيعتنا وأوليائنا).

قال المسيب: ثم رأيت شخصاً أشبه الأشخاص به جالساً إلى جانبه وكان عهدي بسيدي الرضا (عليه السلام) وهو غلام، فأردت أن أسأله، فصاح بي سيدي موسى، وقال: أليس قد نهيتك، ثم إن ذلك الشخص قد غاب عنّي، فجئت إلى الإمام (عليه السلام) فإذا به جثة هامدة قد فارق الحياة فأنهيت الخبر إلى الرشيد بوفاته.

لقد لحق الإمام (عليه السلام) بالرفيق الأعلى إلى جنة المأوى إلى جوار أبيه جعفر الصادق (عليه السلام) وأجداده المعصومين (عليهم السلام) وجدّه الرسول الأمين (صلّى الله عليه وآله) فاضت نفسه الزكية إلى بارئها فأظلمت الدنيا لفقده وأشرقت الآخرة بقدومه. وقد خسر المسلمون ألمع شخصية كانت تدافع عنهم وتطالب بحقوقهم، كما خسر الإسلام علماً عظيماً يذبّ عن كيان الإسلام، ويدافع عن كلمة التوحيد، ويناظر ويحاجج كل من أراد الاعتداء أو التحريف في شريعة الله الخالدة.

عاش معظم حياته لغيره، فكان أبرّ الناس بالناس، يعطف على الضعفاء، ويساعد الفقراء بصرره المعروفة باسمه، وأثلج قلوب المحتاجين بهباته الدائمة وعطاياه السخية ليخفف عنهم مرارة العيش وشقاء الحياة.

كان حليماً، كريماً، باراً، متسامحاً، محباً، عالماً، تقياً، ورعاً، مجاهداً، فقالوا عند موته: مات أحلم الناس، وأكظمهم للغيظ، وقد طويت بموته صفحة بيضاء من أروع الصفحات في العقيدة الإسلامية.

أيها العالم المجاهد المكافح، أيها الإمام العظيم لقد تلحّفت بثوب الشهادة ومضيت إلى الله شهيداً سعيداً فهنيئاً لك في مثواك الشريف الذي ما زال وسيبقى مزاراً لكل المسلمين المؤمنين.

فأين قبر هارون الطاغية؟ الذي صبّ عليك جام غضبه وأذاقك ألوان الأذى والإرهاق لقد اندثر كما اندثر غيره من قبور الطغاة الظالمين. وقفت في وجه هارون وكنت من أقوى خصومه تنعى عليه ظلمه وتندد بإسرافه وتبذيره أموال المسلمين على قصوره وخدامه وراقصاته وحيواناته…

أيها الشهيد السعيد سجبت استبداد الظالمين وجورهم وفزت برضاء الله ولم تصانع ولم تخادع بل رفعت راية الحق التي رفعها قبلك أبوك وجدك، وهتفت بصوت العدل تريد الخير والسعادة لجميع المسلمين الأحرار. لقد فزت فوزاً كبيراً وبقي اسمك عطراً على ألسن المسلمين المجاهدين قاطبة، ولقد خسر خصمك، وبطل سعيه، وأخمد ذكره وبات لعنة تلفظه الأفواه ولا يذكر إلا قرين الخيبة والخسران.

أنت كوكب من كواكب الإسلام المشرقة وعلم من أعلام الإنسانية نقف عندك لنأخذ عبرة ونستلهم من مواقفك كل جوانب الخير والحق.

لقد كنت على شفة الموت وجفن الحياة وبينهما مشرف الشهادة وهذه فوق الحياة والموت لأنها عري الذات وامتشاق الإرادة للانهمار على بحر الله والانذياع فيه بدون شراع. فسلام عليك يابن رسول الله، يوم ولدت، ويوم استشهدت، ويوم تُبعث حياً.

زمن وفاته

المشهور عند المؤرخين أن وفاة الإمام الكاظم (عليه السلام) كانت سنة 173هـ لخمس بقين من شهر رجب.

وكانت وفاته في يوم الجمعة وعمره الشريف أربع وخمسون سنة أو خمس وخمسون وكان مقامه منها مع أبيه عشرين سنة وبعد أبيه خمس وثلاثون سنة.

محل وفاته

المعروف أن وفاته كانت في حبس السندي بن شاهك، وقيل أنه توفي في دار المسيّب بن زهرة بباب الكوفة الذي تقع فيه السدرة وقيل أن وفاته في مسجد هارون، وهو المعروف بمسجد المسيّب ويقع في الجانب الغربي من باب الكوفة لأنه نقل من دار تعرف بدار عمرو.

التحقيق بالحادث

تحقيق وأي تحقيق: خداع وتضليل لتبرير ساحة الطاغية هارون! قامت شرطة الحاكم الظالم في التحقيق بهذا الأمر الخطير وغايتها تبرئة هارون من المسؤولية إمام جماهير الشيعة ومحبّي الإمام ومن المكلّف بالتحقيق؟ فاعل الجريمة نفسه! ما عاذ الله فالنتيجة مكتوبة قبل المباشرة بالتحقيق.

كلف هارون السندي بالتحقيق وكما يقولون (حاميها حراميها).

أرسل السندي إلى عمرو بن واقد وطلب إليه أن يجمع أشخاصاً يعرفون الإمام (عليه السلام)، ولما حضروا وعددهم يقارب الخمسين رجلاً سألهم: هل تعرفون موسى بن جعفر؟ قالوا: نعم. فقام عمرو وكشف الثوب عن وجه موسى، فالتفت السندي إلى الجماعة الشهود وقال لهم: انظروا إليه، فدنا واحد منهم بعد واحد فنظروا إليه، ثم قال لهم: (تشهدون كلكم أن به أثراً تنكرونه؟).

فقالوا: لا، ثم سجل شهاداتهم وانصرفوا).

ورواية أخرى تقول: إن السندي استدعى الفقهاء ووجوه أهل بغداد وفيهم الهيثم بن عدي وغيره فنظروا إلى الإمام وهو ميت وشهدوا على ذلك أن لا أثر به!

هذه الإجراءات التي اتخذها السندي بن شاهك إنما جاءت لتبرير ساحة الحكومة من المسؤولية وإبعاد الأنظار عنها في ارتكاب الجريمة لكن الإمام (عليه السلام) قد أفسد عليهم صنعهم وتضليلهم وكشف للناس أن هارون هو الذي اغتاله بالسم.

وأما ما اتخذه هارون المجرم لرفع الشبهات التي حامت حوله فإنه جمع شيوخ الطالبيين والعباسيين وسائر أهل ممكلته والحكام فقال لهم: (هذا موسى بن جعفر قد مات حتف أنفه وما كان بيني وبينه ما استغفر الله منه ـ يعني في قتله ـ فانظروا إليه) فدخل على الإمام سبعون رجلاً من شيعته، فنظروا إليه وليس به أثر جراحة ولا خنق. وقال أحد الشعراء:

ومــــهما يـــكن عــند امرئ من خليقة

وإن خـــالها تـــخفى عـلى الناس تعلم

كل هذه الإجراءات لم تجد هارون نفعاً لأن الحق لابدّ أن يظهر، ولا يخفيه الدجل والخداع والتضليل فقد عرف الخاص والعام أنه هو الذي اغتال الإمام وهو المسؤول عن دمه وكل مساعيه باءت بالفشل.

على الجسر

إمام المسلمين وسيد المتقين العابدين وسبط النبي الأمين (صلّى الله عليه وآله) ألقي على جسر الرصافة في بغداد، قد أحاطت الشرطة بجثمانه المقدس، وكشفت عن وجهه بقصد انتهاك حرمته، والتشهير به. حاول هارون بفعلته الحقيرة هذه إذلال الشيعة عامة والعلويين خاصة ولم يرع الرحم الماسة التي بينه وبين الإمام (عليه السلام). لقد اثر ذلك في نفوسهم تأثيراً كبيراً وظلوا يذكرونه طوال مراحل حياتهم. اندفع شعراؤهم إلى نظم هذا الحدث المفجع وقال بحسرة ولوعة المرحوم الشيخ محمد الملا:

مـــن مبـــــلغ الإســـلام أن زعــــــيمه

قـد مــات فــي سجن الرشيد سميم

فـــــالغي بـــــات بـــموته طرب الحشا

وغـــــدا لمـــــــأتــمه الــــرشاد مـقيم

ملـقى عـــلى جــسر الـرصافة نعشه

فـــيه المــــــلائك أحـــــدقوا تعــــظيم

لقد ملأ الرشيد قلوب الشيعة بالحقد والحزن وتركهم يرددون هذه الفعلة المشينة بكرامة إمامهم طوال مراحل حياتهم.

ولم يكتف هارون الطاغية عند هذا الحد، بل أوعز إلى حارسه السندي اللعين ليأمر جلاوزته أن ينادوا على جثمان الإمام الشريف بنداء مؤلم تذهب لنفوس لهوله أسى وحسرات، فبدل أن يأمرهم بالحضور لجنازة الإمام المعصوم ابن الإمام المعصوم أمرهم أن ينادوا بنداء قذر موحش فهتفوا في الشوارع والطرقات:

(هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت، فانظروا إليه ميتاً).

التوهين بمركز الإمام (عليه السلام)

بقي الإمام ثلاثة أيام لم يوار جثمانه المقدس، فتارة موضوع في قاعة السجن والشرطة تجري التحقيق في حادث وفاته، وأخرى ملقى على جسر الرصافة تتفرج عليه المارة وهو مكشوف الوجه. كل ذلك للاستهانة بمركزه والتوهين بكرامته.

تجهيز الإمام (عليه السلام)

اهتم سليمان بن أبي جعفر المنصور بتجهيز الإمام وتشييعه، كان قصره مطلاً على نهر دجلة، فسمع الصياح والضوضاء ورأى بغداد قد ماجت واضطربت فهاله ذلك، فالتفت إلى ولده وغلمانه قائلاً: (ما الخبر؟) فقالوا له: هذا السندي ابن شاهك ينادي على موسى بن جعفر، وأخبروه بذلك النداء القاسي. فثارت عواطفه واستولت عليه موجة من الغيظ فصاح بولده قائلاً:

(إنزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم، فإن مانعوكم فاضربوهم وخرقوا ما عليهم من سواد ـ وهو لباس الشرطة والجيش ـ انطلق أبناء سليمان وغلمانه إلى الشرطة فأخذوا جثمان الإمام (عليه السلام) منهم ولم تبد الشرطة أية معارضة، حمل الغلمان النعش وجاءوا به إلى سليمان فأمر فوراً أن ينادي في شوارع بغداد بنداء معاكس لنداء السندي أخذ الغلمان ينادون بأعلى أصواتهم بهذا النداء:

(ألا من أراد أن يحضر جنازة الطيب ابن الطيب موسى بن جعفر فليحضر). فلما سمع الناس هذا النداء خرجوا على اختلاف طبقاتهم لتشييع جثمان إمام المسلمين وسيد المتقين الورعين، وخرج الشيعة بصورة خاصة يذرفون الدموع ويلطمون الصدور والأسى والحزن قد أدمى قلوبهم، فجاء سليمان ففرج عنهم الكروب وواساهم في مصيبتهم المفجعة.

وتم تشييع الإمام (عليه السلام) بموكب حافل لم تشاهد بغداد نظيراً له.

أما إذا ما سألنا عن الأسباب التي دفعت سليمان للقيام بمواراة الإمام (عليه السلام) وتشييعه فيمكن اختصارها بما يلي:

أ) الرحم الماسة:

تلك الرحم التي تربط بينه وبين الإمام (عليه السلام) هي التي هزت مشاعره وأثارت عواطفه، فلم يستطع صبراً أن يسمع أولئك العبيد وهم ينادون بذلك النداء المنكر على جثمان زعيم الهاشميين وعميد العلويين. إضافة إلى أنه لم يكن بينه وبين الإمام ما يوجب الشحناء والبغضاء، فلذا أثرت فيه أواصر الرحم وانطلق إلى إنقاذ الجثمان ابن عمه من أيدي الجلاوزة وصنع بعض ما يستحق من الحفاوة والتكريم.

ب) محو العار عن أسرته:

رأى سليمان الذي حنكته التجارب أن الأعمال التي قام بها الرشيد تجاه الإمام (عليه السلام) هي أعمال مشينة لطخت جبين الأسرة العباسية، إذ كان يكفي هارون دسه السم إلى الإمام واغتياله عن القيام بتلك الأعمال البربرية الحاقدة والتي تدل على نفس لا عهد لها بالشرف والنبل والكرامة، كما تدل في الوقت نفسه على فقدان المعروف والإنسانية عند العباسيين. فقام سليمان بما يفرضه عليه الواجب الإنساني فقط للحفاظ على سمعته وسمعة أسرته ومحو العار عنهم.

ج) الخوف من انتفاضة شيعية:

خاف سليمان من قيام الشيعة بانتفاضة للثأر والانتقام، فيتمرد الجيش وتحدث اضطرابات عنيفة وفتن داخلية، لأنّ ذلك الاعتداء الصارخ على كرامة الإمام (عليه السلام) الطيب ابن الطيب، إنما هو طعنة نجلاء في صميم العقيدة الشيعية، فكان من الطبيعي أن تثير أعمال هارون البربرية عواطفهم وتحفزهم على الثورة والانتقام من خصومهم.

ولا يخفى أن عدد الشيعة في ذلك الوقت عدد لا يستهان به، فقد اعتنق عقيدتهم خلق كثير من رجال الدولة، وكبار الموظفين والكتاب في الدولة، وقادة الجيش، ولذا تدارك سليمان الموقف وقام بما أملاه عليه الواجب الإنساني وأنقذ حكومة هارون من الاضطراب والفتن المتوقعة في كل آن. كما أسدى بفعلته هذه يداً بيضاء على عموم الشيعة تذكر له الخير والثناء.

تجهيز الإمام (عليه السلام) على يد سليمان

قام سليمان بتجهيز الإمام (عليه السلام) فغسله، وكفنه، ولفه بحبرة كتب عليها القرآن الكريم بأسره كلفته ألفين وخمسمائة دينار.

حدث المسيب بن زهرة قال: والله لقد رأيت القوم بعيني وهم يظنون أنهم يغسلونه فلا تصل أيديهم إليه ويظنون أنهم يحنطونه ويكفنونه وأراهم أنهم لا يصنعون شيئاً، ورأيت ذلك الشخص الذي حضر وفاته ـ وهو الإمام الرضا (عليه السلام) ـ وهو الذي تولى غسله وتحنيطه وتكفينه وهو يظهر المعاونة لهم، وهم لا يعرفونه فلما فرغ من أمره التفت إليّ فقال: (يا مسيب مهما شككت في شيء فلا تشكن في، فإني إمامك ومولاك وحجة الله عليك بعد أبي، يا مسيب مثلي مثل يوسف الصديق ومثلهم مثل إخوته حين دخلوا عليه وهم له منكرون).

مواكب التشييع

يوم تشييع الإمام موسى (عليه السلام) يوم أغر لم تر مثله بغداد في أيامها يوم مشهود حيث هرعت الجماهير من جميع الطبقات إلى تشييع ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقد خرج لتشييع جثمانه الطاهر جمهور المسلمين، على اختلاف طبقاتهم يتقرّبون إلى الله جل جلاله بحمل جثمان سبط النبي (صلّى الله عليه وآله)، سارت المواكب تجوب الشوارع والطرقات وتصرخ ملتاعة حزينة.

أيضاً فقد خرج كبار الموظفين والمسؤولين من رجال الحكم يتقدمهم سليمان وهو حافي القدمين، وإمام النعش مجامير العطور. وقد حمل الجثمان على الأكف محاطاً بالهيبة والجلال، جيء به فوضع في سوق سمي بعد ذلك بسوق الرياحين، كما بني على الموضع الذي وضع فيه الجثمان المقدس بناء لئلا تطأه الناس بأقدامهم تكريماً له.

وانبرى أحد الشعراء فأنشد هذه الأبيات:

وأزل أفــــــاويه الحـــــنوط ونـــــــحها

عـــنه وحنـــــــطه بطــــــيب ثــــنائه

ومـــــر المـــــلائكة الـــــكرام بحـمله

كـــــرمـــــاً ألســـــت تــــراهم بإزائه

لأتــوه أعــــــناق الـــــرجال بـــحمله

يـــــكفي الذي حملوه من نعمـــائه

وسارت المواكب متجهة إلى محلة باب التبن وقد ساد عليهم الوجوم والحزن، وخيم عليهم الأسى من هول المصاب.

إلى المقر الأخير

قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

أحاطت الجماهير الحزينة بالجثمان المقدس وهي تتسابق على حمله للتبرك به. حفر له قبر في مقابر قريش، وأنزله سليمان بن أبي جعفر في مقره الأخير هو مذهول مرعوب خائر القوى، وبعد فراغه من مراسيم الدفن، أقبلت إليه الناس تعزيه وتواسيه بالمصاب الأليم.

فهنيئاً لك أيها القبر باستقبال هذا الضيف الطاهر هذا العالم المعلم، وهذا العبد الصالح الذي آثر طاعة الله على كل شيء في هذه الدنيا انصرف المشيعون وهم يعدّدون فضائل الإمام الشريفة ومناقبه السامية ويذكرون ما عاناه الكاظم غيظه من المحن والخطوب وقيود السجن قالوا كلهم: إن فقد الإمام كان من أعظم النكبات التي مني بها العالم الإسلامي عامة والشيعة خاصة في ذلك العصر.

ولا غرو في ذلك لقد فقد المسلمون علماً من أعلام العقيدة الإسلامية وإماماً معصوماً من الأئمة المعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وغصناً من دوحة النبوة.

هكذا عمت قلوب الطامعين بالملك فتحجرت قلوبهم وتصلبت أحاسيسهم فجاروا وظلموا وبطشوا وضيعوا موازين الحق والعدل. والغريب العجيب أنهم نصبوا أنفسهم على الناس بحد السيف وسموا أنفسهم خلفاء الله على الأرض. لقد ضاعوا في دنيا الجاه والسلطان وغرقوا في لجج الأنانية وحب التسلط وقد تحمل الإمام الكاظم كل هذا الجور والظلم وبقي صامداً أمام الظالمين لا يلين ولا يضعف أمام جورهم وظلمهم.

عاش (عليه السلام) في حياته عيشة المتقين الصالحين، والمجاهدين المدافعين عن حقوق الأمة الإسلامية، لقد رفع كلمة الحق وحطم الباطل فلم يجار هارون، ولم يصانعه، بل كان من أقوى الجهات المعادية، له، وقد تحمل في سبيل ذلك جميع ضروب الأذى وكل ألوان الآلام حتى لفظ نفسه الشريف في ظلمات السجون وفاز بالشهادة، وجعل الله ذكره خالداً مدى الدهور، وقدوة صالحة تسير عليها الأجيال المجاهدة في سبيل الله، ومرقده في بغداد كان ولم يزل ملجأ للمنكوبين وملاذاً للملهوفين يسعون إليه من كل حدب وصوب ويدعون له لحل مشاكلهم وتسهيل أمورهم، وما قصد مرقده أحد من طلاب الحاجات إلا لبى حاجته وما خاب من دعاه.

وقد منّ الله عليه فجعله من أئمة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل