Search
Close this search box.

أحبّ عباد الله من أعانه الله على نفسه

أحبّ عباد الله من أعانه الله على نفسه

سنتعرف من خلال البحوث التي بين أيدينا إلى أهم الخصائص، وأبرز الصفات التي يتميز بها “عباد الله الصالحون” في ضوء ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام. وهي تتمحور حول الخطبة السابعة والثمانين من خطب نهج البلاغة، حيث ذكر أمير المؤمنين عليه السلام في أول قسم من تلك الخطبة، ثلاثاً وثلاثين صفةً مميزةً من الصفات التي يتصف بها عباد الله الصالحون والمتّقون. ومع أن الظاهر يوحي بأن هذه الصفات خاصة بالمتقين، وأهل السير والسلوك، إلا أن هذه الصفات والخصائص الحميدة والعالية ما اجتمعت كلها إلا في أمير المؤمنين، وأبنائه البررة عليهم السلام، بل ومن غير الممكن أن تجتمع في غيرهم.

وفي هذه المقتطفات من خطب ومحاضرات الأستاذ الشيخ مصباح اليزدي حفظه الله، يقدم سماحته عرضاً وافياً، وشرحاً كافياً لتلك الصفات والميزات.

* ميدان جهاد النفس
قال أمير المؤمنين عليه السلام: “عباد الله، إنّ من أحبِّ عباد الله عبداً أعانه الله على نفسه”.
يمكن لنا أن نستدل من خلال هذه الكلمات على أن الإنسان غير قادر على مجاهدة نفسه إلا بتوفيق من الله تعالى وعناية منه. وعليه، ينبغي على من أراد مجاهدة نفسه، وبالدرجة الأولى، أن يتضرّع إلى الله تعالى، طالباً منه الاستعانة والتوفيق لذلك، ليكون محلّ عنايته ولطفه.

وهنا تطرح بعض التساؤلات التي من جملتها ما يلي:
1- لماذا ينبغي للإنسان أن يجاهد نفسه؟
2- لماذا لم يخلقِ الله تعالى الإنسان، منذ البداية، قادراً ومسلّطاً على نفسه؟
وقبل الإجابة عن السؤالين السابقين، لا بد من معرفة ما المراد من “النفس”؟
إن المعنى المقصود من “النفس” في بحثنا هو: الدوافع، والغرائز، والميول النفسية الكامنة في الإنسان، وبتعبير آخر: النزعة النفسية التي غالباً ما تسوق الإنسان نحو الانحطاط، وتوقِعُه في أتون المعصية، وبالتالي، تقف سدَّاً مانعاً من ارتفاعه في سلّم الكمالات الإنسانية، وتحجبه عن مقام القرب الإلهي. وقد ورد التعبير بنفس هذا المعنى في أغلب المفاهيم والتعاليم الدينية، ومنها ما جاء في أول هذه الخطبة الشريفة.

* الإنسان في مواجهة الحق والباطل
يوجد في حياة الإنسان طريقان: الأول، طريق الهداية والصلاح والقرب من الله تعالى، والطريق الثاني، طريق الضلال والبعد عن الله تعالى. وتوجد عوامل خفية كامنة في النفس البشرية تلعب دوراً أساساً في تحديد أهداف حركة الإنسان، وتوجيهه نحوها، وهي محصورة في جهتين لا ثالث لهما.
الجهة الأولى: الحق، أي طريق الله تبارك وتعالى. والجهة الثانية: الباطل، أي طريق الشيطان اللعين.
ولا مفرّ للإنسان من السير في إحدى هاتين الجهتين.
إن أصل الحركة أمرٌ إجباريٌ لا بدّ منه، وإنما يكون انتخاب جهة الحركة اختيارياً. وبمعنى آخر، يستطيع الإنسان وبملء إرادته تحديد واختيار مساره، فيسير في خط الاستقامة ونهج الحق، أو في خط الانحراف والضلال، وهذا يبيّن لنا بشكل واضح وجليّ كيف أن الإنسان يقع تحت تأثير العوامل الروحية والنفسية، أي الميول والنزعات.

فإن جنحت تلك العوامل إلى شيء ما، فإنها تخلق في أنفسنا ميلاً ورغبة ومحبةً تُجاه ذلك الشيء، ومن ثمّ تدفع بالإنسان، وتوجهه للحصول عليه، وإذا نفرت من شيء فإنها تخلق فينا حالة من الكراهية تُجاهه، واعلم أن بعض الرغبات، الحسنة منها والسيئة، ليست باختيار الإنسان، فعلى سبيل المثال: يعجب الإنسان بطبعه بالطعام اللذيذ، وينفر بطبعه من الرائحة الكريهة. ولا يمكن أن تنقلب هذه الرغبات في الظروف الطبيعية والعادية، فينفر من الطعام اللذيذ، ويُعجب بالرائحة الكريهة. إذاً، إن سعي الإنسان لتأمين رغباته، والوصول إلى ما يحبه، والابتعاد عما يكرهه يكون إجبارياً، نظراً إلى أن الإنسان بطبعه يعجب بأشياء، وينفر من أخرى.

* ميول تدفع إلى المعصية
كل تحركات وتصرفات الإنسان مندرجة في قالب الرغبات، وهنا سؤال يطرح نفسه: لماذا تحسن بعض تصرفات الإنسان، وتسوء أخرى؟ ولِمَ هذا التفاوت الكبير في مسار الإنسان؟
في مقام الجواب نقول: إن الإنسان لديه ميول ورغبات كثيرة، وبسبب محدودية مجال الاختيار، فإنها تتباين في مقام التحقق، وهذا ما يؤدي إلى رجحان بعض تلك الميول والرغبات على بعضها الآخر، ما يحرم الإنسان بالتالي، من تحقيق باقي رغباته وميوله النفسية.
وإذا ما أحجم الإنسان عن تهذيب نفسه، ونيل الخيرات والصالحات التي لا انقطاع لبركتها، بسبب تأثير بعض تلك العوامل والنزعات النفسية، والرضوخ للّذات الآنية التي لا دوام لها، فلا شك بأنه يصبح ضحية لتلك الأهواء الزائفة، ويكون قد أوصل نفسه بيده إلى المصير السيئ، ومن ثمّ يكون قد تخلّف عن اللحاق بركب الشهداء والأبرار.
إن مثل هذه الميول النفسيّة الآنيّة المضلّة، هي الّتي توقع الإنسان في المعصية، وتدفعه للجرأة على الله. ومن هنا جاء النهي الشّديد عن الاستجابة لها، والتحذير منها.

* النزاع بين العقل والنفس
تبين مما سبق أن في وجودنا عوامل ونزعات، هي التي تدفعنا وتوجهنا للقيام بأعمال لا نتيجة منها إلا اللذات الآنية التي يعقبها الندم وسوء العاقبة.
وفي علم الأخلاق، يطلق مصطلح “النفس الأمارة بالسوء” على تلك العوامل تحديداً، لجهة أنها تأمر الإنسان بالفساد، وتدفعه نحو الانحراف، وتبعده عن الكمال الإنساني، وقد ورد هذا التعبير في القرآن الكريم، في قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (يوسف: 53) إن جملة العوامل والميول النفسية التي تغرّ الإنسان، هي ما يقال عنها (النفس) في نظر علم الأخلاق.
في مقابل ذلك، (العقل) وهو في اصطلاح علم الأخلاق: ما يميّز بين الخير والشر ويدعو الإنسان إلى الخير والصّلاح، وإلى القيم والمبادئ، ويزجر وينهى عن السّوء والقبائح والمنكرات.
إن وجود رغبات متباينة، واقتضاءات متناقضة في كل من العقل والنفس، هو الذي يتسبب بالنزاع بين جنود العقل وجنود النفس.

من هذا المنطلق يحصل النزاع بين العقل والنفس الأمارة التي قد تسيطر على العقل أحياناً، ويصبح الإنسان معها أسيراً للشيطان، وللميول والنزعات النفسية السيئة. وفي أحيان أخرى يتغلب العقل على ميول النفس، ويسيطر عليها، ومن هذه الحالة فقط يتمكن الإنسان من طي سير الكمال والرقي الإنساني، ويصل إلى مقام القرب الإلهي، لكن كل ذلك بالاعتماد على العقل، وبالاتكال على الله تعالى، والاستعانة به.

1.بحار الأنوار، المجلسي، ج 7، ص 36.
2.م. ن، ج 59، ص 202.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل