نتيجة الرياضات الشرعية الإلهية في شهر رمضان المبارك، والصيام أحد هذه الرياضات حيث يترك الإنسان باختياره وإرادته الملذات الماديّة على امتداد ساعات طويلة، ويتغلب على أهوائه وميوله النفسية طوال أيام الصيام. أضف إلى ذلك الاستئناس بالقرآن الكريم وتلاوة كلام الخالق والتعرف على المفاهيم والمعارف القرآنية، وأضف إلى ذلك أيضاً حالات الذكر والدعاء والتضرّع والتوجه واستئناس الإنسان بالله تعالى في أيام وليالي شهر رمضان خصوصاً ليالي القدر المباركة. كل هذه تشيع في قلب الإنسان نوراً، وتضفي على روحه نزاهة وطهراً، وثمّة طبعاً في هذه الأعمال بالغة الأهمية لشهر رمضان المبارك دروس كبيرة لنا لابد من الانتفاع منها.
من هذه الدروس أن إرادة الإنسان الباحث عن الله بوسعها التغلّب على كافة النـزوات والأهواء والملذات المادية التي تُستقطب إليها نفس الإنسان. هذه نقطة مهمة جداً بالنسبة لنا. أحياناً يلقّن الإنسان نفسه: إنني لا أستطيع الانتصار على هوى نفسي. صيام شهر رمضان يُثبت للإنسان أنّه قادر – إذا ما عقد عزيمة راسخة وأراد فعلاً – أن يتغلّب وينتصر على أهوائه. يمكن بفضل الإرادة المتينة والتوكل على الله تعالى قهر التجليات المُغرية، والعادات القبيحة الذّميمة فينا، وتحرير أنفسنا منها. بوسع هذه الإرادة القوية – وتأثير هذه الإرادة درس كبير لنا – أن تُحرّرنا من عاداتنا الذميمة الشخصية وكذلك عاداتنا الاجتماعية وخصالنا المحليّة التي تتسبب في تأخرنا على الصعد المادية والمعنوية. إذاً، من هذه الدروس انتصار الإرادة الراسخة على كافّة العقبات.
إضافة لذلك، تشيع في شهر رمضان روح مساعدة الناس والتعاون فيما بينهم. أنانيّات الإنسان تنهزم لصالح حبه للآخرين. لاحظوا – في هذه الأعوام الأخيرة وهذه السنة بالذات لحسن الحظ – كم من الناس جعلوا المساجد وحتى الشوارع في بعض الأحياء مراكز لاستضافة عباد الله دون أيّة أسماء أو عناوين. أعدّوا طعام الأفطار ودعوا الناس إلى موائد إفطارهم من دون مجاملات دارجة أو ملاحظات واعتبارات شائعة عادةً في الضيافات الشخصية. حالة التعاون وطلب الخير للناس شيء له قيمة بالغة تُفضي إلى طهارة نفس الإنسان. كم جرت مساعدة المعوزين في هذا الشهر.. بل جرى حتى التبرع بالدم في شهر رمضان. حينما أعلن المسؤولون أنّهم بحاجة لدماء جديدة للمرضى، تبرّع الكثيرون بدمائهم في شهر رمضان. هذه هي حالة تغليب حُب الآخرين على الأنانية وحُب الذات.. تَغليب مصالح الآخرين على مصالح الذات، وهي طبعاً ناجمة بدرجة كبيرة عن الرّوح المعنويّة لشهر رمضان الذي كان هذه السنة كالسنوات الماضية والحمد لله، بل سمعنا وجاءتنا أنباء مُوثّقة وتقارير خبريّة مُؤكّدة تقول إن الأجواء العامة للبلاد هذا العام كانت مُفعمة بالذّكر والدّعاء والتضرّع، خصوصاً في ليالي القدر وتلك الساعات المباركة هَرع الجميع ولا سيّما الشباب وسائر شرائح الشعب المختلفة، ومن كافة المشارب الاجتماعية والفردية والسياسية المتنوعة وأحيوا محافل الدعاء والتوجه والذكر. جاء الجميع ورفعوا أيديهم بالدعاء وربطوا قلوبهم بخالقهم. هذا التوجه والتوسل والتوفيق الذي يكتسبه الإنسان يُعدّ لطفاً إلهياً.. إنه نظرة الخالق لنا والتي يُشير لها الإمام السجاد (عليه السلام) في دعاء وداع شهر رمضان المبارك حيث يقول: “تشكر من شكرك وأنت ألهمته شكرك” ، أنت الذي ألهمت الشكر لقلوب من يشكرونك، “وتكافئ من حمدك وأنت علمته حمدك” أنت الذي وفقت وعلمت عبدك فاستطاع أن يحمدك.
الحقيقة أنك مجرد أن تقول يا الله وبمجرد أن يستئنس الإنسان بالباري تعالى ويتكلم معه فهذا لطف من الله وتوفيق يمنّ به الله على الإنسان. كلمة “يا الله” بحد ذاتها تنطوي على إجابة الرب. لقد ذقتم هذه اللذة المعنوية بقلوبكم الطاهرة النورانية الخالية من التكلف أو قليلة التكلّف. فلا تخسروا هذه اللذة ولا تتركوها. انتفعوا من فرصة الصلوات الخمسة، وتلاوة القرآن، والمساجد، والأدعية الواردة، والصحيفة السجادية، وغير ذلك لكي يتواصل هذا الطهر وهذا النور. هذه خصوصية بارزة ليوم عيد الفطر أن تحملوا في نفوسكم هذا النور المشع من شهر رمضان.