Search
Close this search box.

الجفاف العاطفي يهدم الأسرة

الجفاف العاطفي يهدم الأسرة

“منذ أعوام وهو لا يلتفت لوجودي، يتجاهل حديثي، ولا يهتمّ لشؤون المنزل. لقد تعبت من القيام بكلّ شيء وحدي! وعلى الرغم من ذلك، يريد أن يرى ابتساماتي دوماً”، قالت ودموعها تسابقها. “بتّ أشتاق لأسمع كلمة ودّ حين التعب، وبدل ذلك لا أسمع إلّا شكواها من الأولاد والجارات، وبعد ذلك تطالبني أن أكون عاطفيّاً”، قال بصوت مخنوق.

هذا نموذج لشكوى الأزواج التي تردنا يوميّاً إلى العيادة. كمختصّين في حلّ المشاكل الزوجيّة، نرى في هذه الشكوى عواطف كامنة عجزوا عن قولها، كما فشلوا في التقاطها من الآخر. ولكن كيف تحوّل بيت الزوجيّة إلى مقرّ للصمت وللحزن؟

الزواج مودّة ورحمة
هذه التساؤلات كلّها يكمن جوابها في فهم ماهيّة الزواج حسب الدين الإسلاميّ، وأنّ عماد دوامه واستمراره “المودّة والرحمة”؛ فالمودّة تصطدم أحياناً بالواقع الذي يجتاحه الضعف البشريّ والحاجة إلى الراحة، في وقت احتاج فيه الطرف الآخر إلى العاطفة والحنان، فلا المتعب أعطى المشتاق عاطفة، ولا المشتاق قدّر ظروف المتعب. أمّا بالرحمة، فنتفهّم تقصير الآخر ونقدّر تعبه، ونخرج من إطار أنانيّة الحبّ لنصل لسموّ الانصهار الذي عبّر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ (البقرة: 187). وبدون الرحمة، سنرى الصدام يتطوّر لجفاف مدمّر يمكن اختصاره بحالة ركود، وملل، وتبلّد يشلّ الحياة العاطفيّة بين الزوجين، ثمّ يتحوّل إلى حالة صمت طويل بينهما، وغرق في الروتين، ويسود البرود في الأقوال والأفعال، فتخلو من مشاعر المودّة والحبّ التي من المفترض أن تكون بين الزوجين.

أسباب الجفاف بين الزوجين
إنّ أهمّ أسباب الجفاف العاطفيّ بين الزوجين، هي:

1- نسيان دورهما كزوجين محبّين: يتناسى كثير من الأزواج أنّهم يملكون الحقّ في العيش كحبيبين، فيظنّون أنّ الحبّ انفعال وتأثّر. وطالما أنّهم لا يشعرون به، فإنّه من الصعب إيقاظه أو إحياؤه بين القلوب، بل ويُلقي كلّ من الزوجين المسؤوليّة الكاملة عن البخل العاطفيّ على الطرف الآخر، علماً أنّه مسؤوليّة مزدوجة بين الطرفَين.

2- ضعف التعبير: يحصل أحياناً، وبسبب التربية في بيئة عاطفيّة جافّة لم تتعلّم التعبير الكلاميّ أو الجسديّ عن الحبّ، أن يعتاد الزوجان على عدم المثابرة في إيصال العاطفة للطرف الآخر، أو قد يكونان قد عايشا تجارب عائليّة سيّئة مع والديهما في هذا المجال.

3- العمل والطموح العلميّ: كما تدخل أسباب أخرى في صرف الأزواج عن أدوارهم العاطفيّة، كانغماسهم في العمل على حساب الأسرة، أو حتّى انشغالهم في تحقيق الطموح العلميّ.

4- الاهتمام المبالغ بالأولاد: أحياناً تتجاهل الزوجة مهامها تجاه الزوج بسبب أعباء الاهتمام بالأولاد، معتقدةً أنّ الأولى بالعناية هم الأبناء، فتختار رعاية أبنائها على حساب تلبية احتياجات زوجها، غير عابئة بالتقصير تجاهه؛ فهي ترى أنّ الهدف الأساسيّ من الزواج قد تحقّق، وتبدأ في التصرّف وكأنّها أمّ فقط، وتعاود عيش حياتها الخاصّة مع صديقاتها على حساب وقت الزوج! وفي المقلب الآخر، نرى الزوج ينهمك في عمله لتأمين احتياجات أسرته، ويقضي وقت راحته مع أصدقائه ليرفّه عن نفسه، ويتصرّف كأنّه عازب بلا مسؤوليّة، ومع الوقت، يتناسى واجباته العاطفيّة تجاه زوجته، ويكملان حياتهما معاً تحت مسمّى الواجب فقط، وتصبح اهتماماته في مكان آخر بعيدة عن جدران المنزل، ومع ذلك، يشعر أنّه غير مقصّر تجاه عائلته!

5- وسائل التواصل الاجتماعيّ: بسبب وسائل التواصل الاجتماعيّ، زادت الهوّة العاطفيّة بين الزوجين، وبات لكلّ منهما عالمٌ افتراضيّ خاصّ به، يبعده أكثر فأكثر عن عالم الزوجيّة الواقعيّ.

تداعيات الجفاف العاطفيّ
نتيجة لما ذكرناه سابقاً، نرى بعض الأُسر اليوم عبارة عن صور اجتماعيّة، دون عمق في العلاقة. وأوّل المتضرّرين من هذه الحالة هم الأطفال، إذ تزيد المشكلات لديهم بسبب افتقاد الأمان والعاطفة داخل المنزل، وانصراف كلا الزوجين إلى حياته الخاصّة.

أمّا نفسيّاً، فتظهر آثار هذا الجفاف العاطفيّ على المرأة، فتصبح أكثر حسّاسيّة وانفعالاً، ونراها تبكي لأبسط الأسباب، وتصبّ جامَ غضبها على الأطفال، في حين نرى الرجل صامتاً أو غائباً معنويّاً أو جسديّاً عن البيت، ولا يتكلّم إلّا لينتقد زوجته. كما يمكن لحاظ انخفاض منسوب الحوار بينهما إلى درجة متدنّية، فلا يتكلّمان إلّا بما هو ضروريّ وعاجل.

هنا، لا بدّ من حصول يقظة لكلا الزوجين، ليدركا أنّ الحبّ بينهما يحمل طابعاً خاصّاً لا يشبه مشاعر الأبوّة أو الأمومة، ولا يمكن قياسه بأيّ علاقة أخرى، سواء كانت افتراضيّة أو واقعيّة. وعليهما أن يدركا أنّ الوقت لا يُنقص المشاعر؛ لأنّها نبع دائم لا ينضب.

رسائل تعزّز المودّة
لأنّ العواطف تملك قوّة قد تحرّك الجماد القابع في النفوس، وتدير منازلنا شئنا أم أبينا، سنوجّه بعض الرسائل للزوجين، علّها تمدّ جسر المودّة بينهما:

1- الأسرة هي النواة الأهمّ في حياتكما (دينيّاً واجتماعيّاً وعاطفيّاً)، فإن شعرتما أنّ الحبّ موجود، ولكنّه غير ملموس، فليبدأ كلّ منكما بنفسه بالتدرّب التدريجيّ على قول كلمات الحبّ؛ لأنّ للكلمات سحرها على قائلها قبل متلقّيها، وعبرها سنلاحظ أنّ المشاعر بدأت في الظهور كما السابق.

2- الأطفال هم ثمرة زواجكما ومصدر سعادته، ولكنّ ذلك لا يلغي أنّكما ما زلتما زوجَين لديهما احتياجات عاطفيّة بمعزل عنهم.

3- عند حدوث أيّ خلاف بينكما، تجنّبا استخدام الكلمات المهينة، وابتعدا عن سياسة الصمت والهجر؛ فذلك يقسّي القلوب، ولا تخلدا إلى النوم وأنتما على خلاف.

4- لأنّ الوقت ثمين، ولا يوجد أثمن من عائلتكما، فلا تُحمّلا المنزل أعباء عملكما، ولا تفوّتا تمضية إجازاتكما مع العائلة.

5- إنْ غَضِبَ شريكُكَ، حاول الاحتفاظ بهدوئك حتّى تخفّ جذوة الغضب عنده، واتّبع قول الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام حين أوصى الرجل إن غضب على ذي رحم، أن يدنو منه فليمسّه؛ لأنّ الرحم إذا مُسّت سكنت.

6- اقهرا الروتين بدل أن يقهر أحدكما الآخر، فالمفاجآت هي أسرع وسيلة لإعادة المتعة للحياة الزوجيّة؛ لأنّها اهتمام وتعبير عن الحبّ، سواء كانت مفاجأة ماديّة، أو معنويّة، أو حتّى نزهة غير متوقّعة في السيّارة، وتذكرا قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: “تهادوا تحابّوا”(1).

للزوج كلمات
1- حينما تلاحظ أنّ زوجتك بدأت تغضب لأبسط الأسباب، فتأكّد أن تلك طريقتها للفت نظرك إلى وجودها. راجع تصرّفاتك، وسترى حتماً أنّك انشغلت عنها وأهملتها في الفترة الماضية.

2- اهتمامك ببعض التفاصيل الصغيرة يحدث فرقاً كبيراً لدى الزوجة من وقت لآخر؛ دلّلها بأحبّ الأسماء إليها، أو نادها بلفظ (حبيبتي)، أو قم بإرسال رسائل بلا مناسبة عبر الهاتف. وتذكّر قول نبيّ الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم: “قول الرجل للمرأة إنّي أحبّك، لا يذهب من قلبها أبداً”(2).

3- تعلّم فنّ الإنصات، فمن طبيعة المرأة أنّها تحبّ أن يستمع إليها زوجها إذا تحدّثت عن مشاكلها وهمومها. وهي لا تريد منك حلولاً، فقط أنصت وأظهر تفهمّك لما قالته، وسترى عندها كيف ستتحسّن وتشعر بالراحة.

4- خصّص مبلغاً معيّناً لزوجتك تفعل به ما تشاء، منفصلاً عن مصروف البيت.

للزوجة رسائل حبّ
1- حين تلاحظين تقييد زوجك لحريّتك فجأة، انتبهي، فإنّها طريقته ليقول لك: “لقد اشتقت إلى وجودك داخل المنزل”، فراقبي تصرّفاتك.

2- لا تخدعك الدراسات التي تقول إنّ حاجة الرجل إلى العاطفة أقلّ، جرّبي أن ترسلي له أشواقك دون سبب، وسترين ولادة الرجل الذي أحببته منذ سنين.

3- الزوج تستهويه المبادرات، وتذكّري عنصر المفاجآت التي تحدّثنا عنها سابقاً، وأبدعي في ابتكارها.

4- في حال الخلاف، ولأنّ الرجال عمليّون بطبيعتهم، فهم يرغبون في سماع كلمات الاعتذار بشكل واضح وصريح، فلا تتردّدي عزيزتي في الاعتذار، فهذه الكلمات كالسحر، وستجدين كيف سيعتذر بدوره، وتذكّري الحكمة التي تقول: “كوني له أمَة، يكن لك عبداً”(3).

5- إذا لاحظت أنّ زوجك يمرّ بوقت صعب، لا تكتفي بتشجعيه، فقد يشعر أنّك تشفقين عليه، بل أكثري من التغزّل به، وحدّثيه عن أيّامكما الجميلة، وعن سلوكه معك، وكيف أنّك تحسدين نفسك على وجوده في حياتك؛ ذلك كلّه من شأنه أن يشعره بالراحة والثقة بالنفس.

﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾
في الختام، يقول اللّه تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ (الأعراف: 189)؛ فإن لاحظت أنّ عاطفة شريكك بدأت تجفّ، لا تقم بإلقاء اللوم عليه، بل ابدأ فوراً بتقييم حياتكما مؤخّراً، واعمل على تعديل أساليبك لاستعادة شغفه بك، ولا تنتظر نتيجة سريعة، بل افعل ذلك؛ لأنّ هذه العلاقة تستحقّ المحاولة، وإن فشلتما في ذلك، لا سمح الله، عليكما زيارة مختصّين، فهم قادرون على مساعدتكما.

(*) معالجة نفسيّة.

1-الوافي، الفيض الكاشانيّ، ج17، ص371.
2-الكافي، الكليني، ج5، ص569.
3-عيون الأخبار، الدينوريّ، ج4، ص767.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل