السيد وديع الحيدري
لقد اعتقد الكثير من الناس بأنّ موارد الأمور الحسبية تقتصر على مسائل خاصة كان قد أوردها الفقهاء من باب ذکر المصداق دون الحصر ، كالمسائل المتعلقة بأموال القُصَّر والغُيَّب واليتامى ، أو الموقوفات والمرافعات وأمثال ذلك ، فحدّدوا الفقيه بهذه الأمور ، وحصروا طاعته فيها ، ثمّ رتبّوا قياساتهم على هذا الأساس ، فخرجوا بنتائج غير صحيحة .
لقد توهموا بأنّ هنالك بوناً شاسعاً بين موارد الحسبة وبين موارد المباني الأخرى “العامّة والمطلقة” ، وكل ذلك كان بسبب ذاك التصور الخاطىء في أمر الحسبة ، لكنّ إجماع الفقهاء على أمر الحكومة الإسلامية في زمن الغيبة وتصدي الفقيه لها ، على رغم اختلافهم في نوع الولاية التي يرونها له إن كانت مطلقة أو عامّة أو حسبية ، لخير دليل على بطلان هذا التوهم .
يقول الشيخ جوادي الآملي في كتاب “ولاية الفقيه ولاية الفقاهة والعدالة” :
(لا يوجد عندنا فقيه لا يقبل الولاية للفقيه بشكل مطلق ، وإنّ الفقهاء الذين يقولون : لا ولاية للفقيه ، فإنّ مقصودهم من ذلك ، لا ولاية له ابتداءً ، أي ليس له هذه السِمة ، ولم تُجعل له لکي يقدم على تشكيل الحكومة ، إلّا أنّ نفس هؤلاء الفقهاء يقبلون الولاية للفقيه من باب الحسبة . فإذا كان هناك أمّة مستعدّة لإجراء القوانين والأوامر الإلهية وكانت الأرضية مناسبة ، وإنّ الحكومة الإسلامية في مثل هذا الفرض تكون من المصالح المهمّة الإلهية المطروحة أرضاً والمطلوبة من قبل الشارع ، ففي مثل هذا الفرض لم يقل أحد بعدم مسؤولية الفقيه ، وبعدم لزوم إجراء الأحكام الإلهية مع وجود الشرائط المساعدة ، حتى عند أنزل مراتب التفكر المخالف لولاية الفقيه من بين العلماء والفقهاء ، فإنّهم يعتبرون الولاية لازمة في الشرائط المذكورة من باب الحسبة ، ولا يقولون أصلاً بتعطيل الأحكام ، أو بأنّ الناس مخيّرون يفعلون ما يشاؤون ، أو أنّ بالإمكان إجراء القوانين الشرقية أو الغربية المخالفة للشرع بدلاً عن أحكام الإسلام .) ص٤٠٦ النص مترجم للعربية
وهذا هو أحد الفوارق الرئيسية بين المبنى القائل بالحسبة والمباني الأخرى ، حيث لا يعطي سِمة الحكومة للفقيه ابتداءً ، ولكنه لا يدّعيها لغيره في حال توفر الشروط ، وهو على عكس الرأي الآخر القائل بأنّها من مناصب الفقيه .
ويقول الميرزا النائيني في كتاب “تنبيه الأمة وتنزيه الملّة” :
(وطبقاً لأصول مذهبنا حيث نعتقد أنّ أمور الأمّة وسياستها منوطة بالنواب العامّين لعصر الغيبة .) ص١٠٧
ويقول أيضاً في نفس المصدر:
(بما أنّ القيام بإدارة أمور الأمّة وشؤونها هي من الوظائف الحسبية وتدخل في باب الولاية ، إذن فالقيام بها من وظائف النوّاب العامّين والمجتهدين العدول .) ص٦٨
ويقول أيضاً :
(من جملة الثوابت الموجودة في مذهبنا نحن الإماميّة في عصر الغيبة (على مغيَّبه السلام) هناك ولايات تسمّى بالوظائف الحسبيّة لا يرضى الشارع المقدّس بـإهمالها ، حيث نعتقد أنّ نيابة فقهاء عصر الغيبة قدر متيقّن فيها وثابت بالضرورة حتى مع عدم ثبوت النيابة العامة لهم في جميع المناصب إذ أنّ الشارع المقدس لا يرضى باختلال النظام وذهاب بيضة الإسلام ، ومن جهة أخرى نجد اهتمام الشارع بحفظ البلدان الإسلامية وتنظيمها أكثر من اهتمامه بسائر الأمور الحسبيّة ، ومن هنا يثبت لدينا بما لا شك فيه نيابة الفقهاء والنواب العموميين في عصر الغيبة في ما يتعلق بإقامة الوظائف المذكورة .) ص٣٣
ويقول الميرزا جواد التبريزي في أجوبة الاستفتاءات من كتاب “صراط النجاة” :
(الأمور الحسبية هي الأمور التي لابدّ من حصولها في الخارج ولم يُعَيَّن من يتوجه إليه التكليف بالخصوص) ج٣،ص٣٥٨
وقال أيضاً في نفس المصدر :
(إنّ الولاية على الأمور الحسبيّة بنطاقها الواسع ، وهي كل ما عُلِم أنّ الشارع يطلبه ولم يعيّن له مكلفاً خاصّاً ، ومنها بل أهمها إدارة نظام البلاد وتهيئة المعدات والاستعدادات للدفاع عنها ، فإنّها ثابتة للفقيه الجامع للشرائط .) ج١،ص١٠
وقال في جوابه على السؤال : هل أنّ حكم الولي الفقيه نافذ على جميع المراجع حتى مع اختلاف الحكم مع رأي المرجع ؟
ج : (إذا كانت ولاية المتصدي للأمر مشروعة فلا يجوز للغير مزاحمته فيما تصداه ويكون أمره ونهيه نافذاً فيما يرجع إلى الأمور الحسبية .) ج٢،ص٤٦٢
ويقول السيد الخوئي في كتاب “منهاج الصالحين” :
(المقام الثاني : أنّا لو قلنا بمشروعيّة أصل الجهاد في عصر الغيبة فهل يعتبر فيها إذن الفقيه الجامع للشرائط أو لا ؟ يظهر من صاحب الجواهر (قدس سره) اعتباره بدعوى عموم ولايته بمثل ذلك في زمن الغيبة .
هادي, [13/09/2025 05:13 م]
وهذا الكلام غير بعيد بالتقريب الآتي ، وهو أنّ على الفقيه أن يشاور في هذا الأمر المهم أهل الخبرة و البصيرة من المسلمين حتى يطمئن بأنّ لدى المسلمين من العدّة و العدد ما يكفي للغلبة على الكفّار الحربيّين ، وبما أنّ عملية هذا الأمر المهم في الخارج بحاجة إلى قائد وآمر يرى المسلمون نفوذ أمره عليهم ، فلا محالة يتعيّن ذلك في الفقيه الجامع للشرائط ، فإنّه يتصدّى لتنفيذ هذا الأمر المهم من باب الحسبة على أساس أنّ تصدّى غيره لذلك يوجب الهرج والمرج و يؤدّي إلى عدم تنفيذه بشكل مطلوب و كامل .)
وقد تصدى السيد الخوئي هو بنفسه لإدارة شؤون المجتمع كلّها في إنتفاضة شعبان سنة ١٤١١هـ من باب الحسبة أيضاً ، فأصدر بياناً هامّاً في العشرين من شعبان من السنة نفسها جاء فيه :
(وبعد فإنّ البلاد تمر في هذه الأيام بمرحلة عصيبة تحتاج فيها إلى حفظ النظام واستتباب الأمن والاستقرار والإشراف على الأمور العامّة والشؤون الدينية والاجتماعية تحاشياً من خروج المصالح العامّة عن الإدارة الصحيحة إلى التسيّب والضياع .
من أجل ذلك نجد أنّ المصلحة العامّة للمجتمع تقتضي منّا تعيين لجنة عليا تقوم بالإشراف على إدارة شؤونه كلها بحيث يمثل رأيها رأينا ، وما يصدر عنها يصدر عنّا، وقد اخترنا لذلك نخبة من أصحاب الفضيلة العلماء المذكورة أسماؤهم أدناه ممن نعتمد على كفاءتهم وحسن تدبيرهم ، على أبنائنا المؤمنين اتّباعهم والانصياع إلى أوامرهم وإرشاداتهم ومساعدتهم في إنجاز هذه المهمّة . أسأل الله عز وجل أن يوفقهم لأداء الخدمة التي تُرضيه سبحانه وتعالى ورسوله (ص) ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .)
فهل هذا إلّا أمر الحكومة المراد إثباته للفقيه في زمن الغيبة في حال تهيّؤ الظروف لإقامته ؟ فلم يلزم منه القول بالولاية المطلقة أو العامّة ، لأنّ سماحته لا يقول بهما .
إلّا أنّ تصدّيه لإدارة شؤون البلاد في انتفاضة شعبان كان من باب الحسبة ، واقتضاءً للمصلحة العامّة للمجتمع ، وتحاشياً من خروج المصالح العامّة عن الإدارة الصحيحة إلى التسيّب والضياع ، او الهرج والمرج المذكور في النص السابق ، وإنّ أوامر الفقيه هي النافذة فقط في مثل هذه الأمور ، أو لمن يعيّنه هو ، وفي إدارة جميع شؤون المجتمع لا في بعضها فقط ، وعلى المؤمنين الطاعة والانصياع والاتّباع ، وما إلى ذلك من الأمور التي يمكن الاستفادة منها من هذه النصوص ، فتدبّر .
ويقول الشيخ ناصر مکارم الشيرازي في رسالته “ولاية الفقيه في مدرسة شيخنا الأعظم العلّامة الأنصاري” ، وتحت عنوان (أحقّ الناس بالحکومة الإلهية الفقهاء العارفون بزمانهم) :
(ونزيدك توضيحاً : إنّ المهم في مسألة ولاية الفقيه ، ولايته علی الحکومة ، وأنّه أولی الناس بها ، فلا يجوز لأحدٍ التصدّي لهذا الأمر من دون إذنه . وأمّا غير ذلك فهو قليل الابتلاء ، حتّی في زمن الرسول الأعظم ، والأئمة المعصومين عليهم السلام ، والولاية علی الحکومة فهي ثابتة للفقيه بأمرين يظهر من کلامه قدّس سرّه الشريف ظهوراً تاماً .
الأول : کل أمر تحتاج إليه الأمّة ، ولا يجوز ترکه من الأمور التي لم يُؤمر بها فرد معيّن ، أو أفراد معيّنون ممّا يسمّی بالأمور الحسبيّة ، فإنّ أمرها بيد الفقيه الجامع للشرائط ، لا شك لأحدٍ فيه ، بل لو لم يکن هناك فقيه وجب علی عدول المؤمنين القيام بها .
الثاني : لا شكّ أنّ تأسيس الحکومة الإسلامية من أوضح مصاديق هذا الأمر لما عرفت من أنّ غاية النبوّة لا تحصل إلّا بها ، وإنّ أهداف المذهب الإلهي لا تقوم إلّا بها . وإنّه لابدّ للناس من إمام ، وإلّا اختلّ نظام المجتمع ، وظهر الفساد في البرّ والبحر ، ولم يبقَ للإسلام عمود .
نعم هذا من أظهر الأمور الحسبيّة التي لابدّ للفقهاء من القيام بها ، وقيام غيرهم يکون منوطاً بإذنهم .
ومِن ضمّ هذين الأمرين نفهم أنّ ولاية الفقيه علی أمر الحکومة في مدرسة شيخنا الأعظم الأنصاري أعلی الله مقامه السامي ثابت لا ريب فيه .) ص٧
إنّ ما تقدّم من كلام الفقهاء رضوان الله تعالی عليهم ، يبيّن أنّ القول بالولاية علی الأمور الحسبية لا ينفي أمر الحكومة أو إدارة نظام البلاد عن الفقيه الجامع للشرائط ، بل يثبتها له ويعتبرها من أهم موارد الحسبة المطلوبة من قبل الشارع وأظهرها کذلك ، والتي لا يرضى بإهمالها .