يبيّن القرآن الكريم قِسماً من النِعم المعنويّة والباطنيّة الّتي تفضّل بها علىٰ سالكي سبيله (وهم الأنبياء والصدّيقون والشهداء والصالحون) مثل:
أ. الولاية؛ أينما ذكر القرآن الكريم (النعمة) بنحو مطلق، أي لم تكن هناك قرينة (حاليّة أو مقاليّة) علىٰ العموم أو الإطلاق أو الاختصاص فالمقصود منها هو (الولاية) كما في: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾[1] فإكمال الدين واتمام النعمة في هذه الآية ليس إلاّ الولاية. ولهذا فإنّ الإمام الصادق (عليه السلام) في بيان مصداق للآية الكريمة: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم﴾[2] يقول «نحن من النعيم»[3]، أي من مصاديق النعيم. وفي بعض الروايات «إنّ الله أعلىٰ وأسمىٰ من أن يسألكم عن الماء والطعام، بل يسألكم عن الولاية».[4] فالولاية نعمة تجعل جميع النعم في محلّها، وبدون الولاية تتبدّل النِعَم الىٰ نِقَم.
ب. التأييد الإلهيّ؛ يقول الله سبحانه لنبيّه المسيح عيسى (عليه السلام) ﴿يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُس﴾.[5] هذه النعمة كانت مصدراً للمعجزات والبركات الكثيرة الّتي ظهرت علىٰ يد المسيح عيسىٰ (عليه السلام)، إذ يقول هو حول بركات وجوده: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنت﴾.[6]
ج. الإتّحاد؛ انّ التفرقة والتشتّت في المجتمع من أشدّ أنواع العذاب والبلاء، بينما الوحدة من النِعَم الإلٰهيّة: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَان﴾.[7]
وتارة يتحدّث القرآن عن آثار النِعَم المعنويّة والباطنيّة مثل:
أ. الدعوة إلىٰ الجهاد ومواجهة الجبابرة، فهذه الدعوة مصدرها النعم الباطنيّة والنعم الإلٰهيّة الخاصّة.
فعندما أمر الكليم موسىٰ (عليه السلام) بني اسرائيل بالجهاد والنهضة من أجل فتح الأرض المقدّسة: ﴿يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ٭ قَالُوا يَا مُوسىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَدْخُلَهُا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ٭ … فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُون﴾[8]، فقام رجلان من الذين شملتهم النعمة واللطف الإلٰهيّ فناديا في الناس انّكم إن توكّلتم علىٰ الله وهجمتم علىٰ عدوّكم فانّكم منتصرون: ﴿قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنْتُم مُؤْمِنِين﴾.[9] وهذه الآية الكريمة بتعليق الحكم (الدعوة إلىٰ الجهاد) علىٰ الوصف (الإنعام الإلٰهيّ) تفيد هذه الحقيقة وهي أنّ مصدر شهامة هذين الرجلين في شحذ همم الناس وتحريضهم علىٰ الثورة ضدّ الظالمين، هو الإنعام الإلٰهيّ.
ب. النجاة من النار، بعد استقرار أهل الجنّة وأهل النار كلٌّ في محلّه، راح أحد أصحاب الجنّة يتساءل باحثاً عن مصير زميل له كان منكراً للمعاد، وعندما أشرف عليه ووجده في وسط النار قال له: اقسم بالله انّه لولا نعمة الله عليّ لكنت هالكاً مثلك في نار جهنّم: ﴿قَالَ هَلْ أَنتُم مُطَّلِعُونَ ٭ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ٭ قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ ٭ وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِين﴾.[10]
والنعمة الّتي تُنجي الإنسان من عذاب الله يوم القيامة ليست من النِعم الظاهريّة، لانّ النعم الظاهريّة قد اُعطيت لأهل جهنّم أيضاً فكانت سبباً في هلاكهم. ولهذا فإنّ الّذين عاشروا رفقاء السوء فأدّىٰ بهم ذلك الىٰ ظلم أنفسهم أو غيرهم، فانّهم سيعضّون علىٰ أيديهم في ذلك اليوم من شدّة الندم: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ٭ يَاوَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيل﴾.[11]
وطلب الهداية الىٰ صراط المنعم عليهم في الآية: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ٭ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم﴾ هو طلب لمرافقة الأنبياء، وأمّا الّذين كانوا في الدنيا لا أمل لهم في الصراط المستقيم ولم يعملوا لأجل الهداية إليه، فهؤلاء في الآخرة يمقتون أنفسهم ندماً ويقولون: ﴿يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيل﴾.
آية الله الشيخ جوادي آملي
[1] . سورة المائدة، الآية 3.
[2] . سورة التكاثر، الآية 8.
[3] . نور الثقلين، ج5، ص665.
[4] . تفسير الصافي، ج5، ص371.
[5] . سورة المائدة، الآية 110.
[6] . سورة مريم، الآية 31.
[7] . سورة آل عمران، الآية 103.
[8] . سورة المائدة، الآيات 21 ـ 24.
[9] . سورة المائدة، الآية 23.
[10] . سورة الصافات، الآيات 54 ـ 57.
[11] . سورة الفرقان، الآيتان 27 ـ 28.