تناول واقعة الطف لابد أن ينطلق من اعتبارها منبع قيم يخترق عامل الزمان والمكان وتمتد إشعاعاته لترفد الأجيال المتلاحقة بالقيم الأخلاقية والتربوية والفكر الواعي بحقيقة الدور الوظيفي اللائق بالإنسان المكرم.
ولذا فإن عاشوراء لا ينظر له كموسم وحادثة تؤطر بزمان وينتهي بنهايتها أي أثر لها في النفوس والسلوكيات، فعاشوراء الإمام الحسين وإن كانت متعددة المضامين والدروس ومنها جانب العبرة والمواساة الولائية للرسول والعترة الطاهرة، بما جرى من مصاب فادح وجريمة مروعة بأهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله تعددت فيها ألوان الانتهاك للحرم.
إلا أن هناك وجها مشرقا آخر بجانب المواساة وهو جانب استلهام الدروس ووضع الواقعة الأليمة في إطار المدرسة والمنهج.
فالانتصار الحسيني في كربلاء ينظر له كعنوان وبوصلة معرفية وسلوكية تسير باتجاهها ثقافة وهوية الفرد والمجتمع لاكتساب التنمية والسمو والرفعة، فهذه المجالس والمواكب لها مضامين يسعى نحو تحقيقها واغتنامها بحيث تتجلى الأهداف والقيم الحسينية كمظاهر جلية وسلوكيات وطريقة تفكير راقية تتحقق خطوة تلو الأخرى.
فالنهضة الحسينية ذات نبض إنساني يكشف عن سر التفاعل الفكري والوجداني معها على صعيد مختلف الأديان والمدارس الفكرية، والتي تنظر للعناصر المشتركة في هذه الحركة الإصلاحية بما يتعلق بالقائد والأصحاب وأفكارهم وأهدافهم والأحداث التي مرت بهم، في فترة زمنية ومنعطف صعب قل الناجحون في مثل هذا الابتلاء والظروف القاسية العاصفة.
فواقعة الطف عنوان وهوية يتجلى فيها الإنسان المكرم في عقله الناضج وسلوكه النزيه والخالي من النواقص والعيوب، فهناك من كان يمارس الإرهاب والابتزاز والتهديد والبطش بكافة أشكاله على أن تعدل تلك العصابة المؤمنة عن مبادئها، ولكنها أبت الوقوف صفا واحدا خلف راية الحق والفضيلة وإمام الهدى مهما كلف الثمن، ولا أثر فيها أسلوب الترغيب والخداع بالحصول على شيء من متاع الدنيا الزائل، والنتيجة المهمة والمتفق عليها إنسانيا، هي: كيف يمكن لنا صناعة نفوس أبية وواعية كالحسين وأصحابه يحملون فكر الإعمار والإصلاح والتنمية الإنسانية في جميع أبعادها الفكرية والتهذيبية والاجتماعية؟
مؤرخو الحضارة الإنسانية لا يمكنهم المرور دون التفات للنهضة المحمدية التي أزالت كافة أشكال التخلف والضلال في مرحلة الجاهلية، وصنعت نفوسا طاهرة تتحرى الحق والفضيلة وتعمل جاهدة على تحقيق العدالة الاجتماعية، والإمام الحسين انطلق من هذه المباديء الرسالية التي أصابتها سهام التحريف والعدوان على القيم والمضامين الإسلامية العالية.
ولم يكن هناك أدنى تردد من تلك العصبة الإيمانية للالتفاف حول سبط الرسول الأكرم للعودة للهوية الحقيقية، وحينما تجلت المواجهة وكشر العدوان عن أنيابه كاشفا عن نفوس شقية لا هم لها إلا التسلط على الرقاب ومواجهة المناوئين بآلة البطش، لقد وقف هؤلاء الأبطال الشجعان موقف شجاعة وإباء رافضين كل مظاهر الظلم والتحريف، ولولا تلك الوقفة لاندثر الدين في مضامينه وغاياته ولم يبق منه إلا الهوية الفارغة.
الهوية الحسينية انبثقت من الروح الإيمانية الصادقة والمتجسدة في كل كلمة وسلوك لا يخرج عن إطار الغايات للدين الحنيف، وتمسك بهوية الإنسان المكرم والمتحرر من الإذلال والأسر للشهوات والأهواء وأصوات الظلم، والتضحية بكل غال ونفيس وبالأرواح في سبيل الحفاظ على الحق والفضيلة ومواجهة أهل الجور، وهذه الراية الحسينية تخاطب الفكر والسلوك الإنساني عند الأحرار في كل زمان للانضواء تحتها لتحقيق العدالة وبسط السلم.
بقلم / السيد فاضل علوي آل درويش