إن فن الرسم بكل المقاييس من الفنون التي تعتبر مرآة عاكسة لأحاسيس الانسان وعاداته وتقاليده وارثه العقائدي ومنجزاته الحضارية والروحية.
والتراث العريق للشعوب ليس استعارة صامتة بل إن التعامل معه يجب أن يكون برؤية حدسية شاملة، لأن مكوناته ومفرداته التشكيلية لم تأت من العدم ، بل جاءت نتيجة جهود أبنائه وبكل نواحيه الفنية والجمالية، وتراثنا الإسلامي يحوي الكثير من الدلالات والرموز سواء الدينية منها أو الدنيوية، وهي بمجملها ذات أصالة ترتقي بالفكر والأعمال الفنية إلى مستوى الإبداع والمحافظة على روح التراث والتعامل معه بروح المعاصرة .
ولا شك ان ما يحمله موروثنا الشعبي العاشورائي من عادات وتقاليد ورسوم وتشابيه لا يمكن تغييرها أو تبديلها، حتى وإن تبدلت الأجيال وتغيرت طباعها ومستوى تقدمها العلمي أو الثقافي، لأن هذا الموروث ينتقل عبر الأجيال محفوظاً في الشعور واللاشعور، وكل محاولات التطوير التي قد تطرأ عليه تبقى ضمن نكهتها الروحية والعقائدية الخالصة، فان أسس قيام هذه التقاليد ما هو الا ترسيخ للعقيدة وقيمها الروحية عند الموالين ومحبي ال بيت النبوة الاطهار سلام الله عليهم، وهي بالتالي تؤدي وظائف تعليمية ونفعية تعمل على تثبيت العادات والتقاليد والقيم الأخلاقية المتوارثة عبر الاجيال.
اللوحة أعلاه احدى الرسوم المحملة بفيض من الدلالات والرموز العاشورائية، وهي تحمل توقيع الفنان عبد الحميد قديريان، وتعد احدى مكملاته الفنية التراثية التي اختصت بقضية الإمام الحسين عليه السلام وأحداث يوم العاشر من محرم الحرام، وتعتبر اللوحة أحد المفاصل المهمة في سلسلة لوحاته الموسومة بـ( سماء كربلاء)، والتي استعرض فيها معركة الطف بأغلب احداثها المفجعة برموز معبرة حملتها لوحاته وفضاءاتها المتنوعة.
استعار قديريان مفرداته البصرية من مخزونه التراكمي التراثي، وقد تمكن من إعادة صياغتها وفق أسلوبه ورؤيته وما يحمله من ثقافة عقائدية وفنية ، إذ ازدحمت اللوحة وكعادته بالمفردات والعناصر الشكلية واللونية الظاهرة للمشاهد بأسلوب المحاكاة الرمزية للأشكال، فهي تبتعد كثيراً في حسها التجريدي الخالي من تجليات الشخوص، وموصولة بالتخيل والمخيلة الجامحة التي يحملها الفنان ، حيث تتضح في اللوحة رموز وعناصر ذات منحى فكري استرجاعي على مستوى المخيلة والذاكرة.
فالسهم المخترق للقربة والماء المنتشر على آرضية اللوحة والدماء السائلة قرب بعض الآحجار والصخور والنيران المحيطة باللوحة، قد آنجزها الفنان بمجملها وهي محملة بشحنة عاطفية تعبيرية ذاتية تتوسم حيزاً استبطانياً، وكأن الفنان بمنظومته العقلية استدعى نشاطه التخيلي بكثافة ليمنح العمل مسحة خاصة في رؤيته الفنية للواقعة الاليمة وبالتالي ايصال فكرة العمل المبتغاة للمشاهد بسلاسة ووضوح.
ولم يكن ذلك ممكنا لولا إنشائه الفني المفتوح الذي مكن المتلقي من الولوج لفك شفرات رموزه الروحية التي انتقاها الفنان للتعبير عن الحدث، حيث عمد على اقامة علاقة ابتدائية بين ذاته – كفنان وموال لآل البيت (ع)-والموضوع أولاً ومن ثم يهيئ نفسية المتلقي للتفاعل الوجداني عبر اتخاذه السماء وألوانها المتداخلة والمتدرجة مادة أساسية للتعبير في محاولة للوصول إلى حقيقة المشهد ومدى هول الواقعة وحزن وغضب السماء، وهو بذلك يحقق الغاية الأساسية في الربط ما بين الفن وعقيدته الدينية الشيعية ، فالأثر الفني الذي يتركه الرسام يعبر عن جوهر حقيقة قائمة أكثر مما يكون نقلاً أو محاكاة للصورة الواقعية والجمال .
ولو دققنا النظر في عناصر اللوحة وعبر انتشار المساحات اللونية المدركة ، لوجدنا ان الفنان يحاول نقل المشاهد إلى مكان الحدث المتمثل بالصحراء والخيام المحترقة والدماء السائلات على الرمضاء، فأعطى بذلك إحساسا بملمس الرمال وحال أرضية المكان من بعد مقتل الحسين عليه السلام ومن معه ، ليذهب بالمشاهد ويمد بصره إلى الأفق المميز بألوانه الحمراء من شدة نيران الخيام.. ومنها إلى هالة النور المشعة من قلب السماء والتي مثلها الفنان في أغلب سلسلة لوحات سماء كربلاء بشخصية السيدة الزهراء عليها السلام والملائكة تحف بها مواسية بما حل بذريتها الاطهار، ويبدو هنا ان الفنان قد أبدع في إيصال فكرة العمل من خلال صنع تكوينات مفرداته .
عمد عبدالحميد الى استخدام تكنيك مميز في هذا السطح التصويري من خلال إسقاط اللون على اللوحة على شكل طبقات ومساحات لونية متدرجة فابتدأ بطبقة من اللون البني والأسود في مركز اللوحة وبتدرجات مختلفة للدلالة على التربة الخليطة بالماء ودماء عطاشى كربلاء وهي دلالة على الحزن والاسى والظلم والظلام ، ليذهب بعين المشاهد مازجا تلك الألوان مع ألوان الأحمر والبرتقالي للدلالة على التوهج وألسنة النيران المحيطة باللوحة والتي يمثل محورا تدور من حوله الألوان ودلالاتها
أما الألوان الأخرى التي استخدمها الفنان في إشغال فضاء اللوحة فقد كانت لا تتعدى مزيج من اللون الأزرق والأخضر والأبيض والتي مثل بتدرجاتها المختلفة ألوان السماء، وهناك ألوان أخرى للون الأبيض والزرق في السماء والأحمر والبرتقالي في أرضية وافق اللوحة وهي كانت نتاج تمازج ألوان اللوحة مع بعضها البعض بإشارة ذكية من الرسام إلى أرض الطف وما حل عليها من عذاب واسى تمثل بالعطش والقتل والحرق والسبي .
ومن خلال هذه التقنية الفنية الفريدة التي استخدمها الفنان فـي بنـاء اللوحة وتركيب عناصرها بشكل متـوازن، استطاع خلق انسجام وتوافق بين الشكل والمضمون، فبالرغم من ان تفاصيل اللوحة أقل من غيرها بكثير، إلا أن قديريان اعتمد على المساحات اللونية ومجاميع من الخطوط المتعانقة والمتشابكة في صياغة المعاني والدلالات التي تجسد الأفكار والرؤى والعواطف التي تتملك الفنان وتجول في مخيلته وخاطره حول مظلومية سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام ومن معه في طفوف كربلاء.
المصدر: العتبة الحسينية المقدسة