إن التشيع، وفي عصر الإمام زين العابدين عليه السلام خاصة – كان يواجه صعوبات بالغة الشدة، حيث كان الظلم مستوليا على كل المرافق والمقدرات، ولم يكن بالإمكان القيام بأية مقاومة إيجابية، أو محاولة. فآخر ثورة تلك التي أعلنها الإمام الحسين عليه السلام في صد التعدي الغاشم، كان قد قضي عليها، وعلى جميع عناصرها بشكل دموي، وبقي منهم (غلام) فقط، وهو (الإمام زين العابدين عليه السلام). وكانت الأوضاع الاجتماعية تسير باتجاه خطر، خطورة الإجهاز على أساس النهضة، وإخماد روح الوثبة الإسلامية، بل القضاء على كل تفكير من هذا القبيل، وتناسيه إلى الأبد. وأبرز نموذج لهذه المشكلة، أن الإمامة – وهي الجهاز الوحيد الباقي من كل مرافق الحكومة الإسلامية العادلة – أصبحت على شرف التناسي عن الأذهان، لأن نظام الحكم الأموي استولى على كل أجهزة الإعلام من المنبر، والمحراب، والمسجد، واشترى ذمم كل ذوي النفوذ في الرأي العام من قاض وحاكم ووال، وأصبحت كل الإمكانات في قبضة (الخلافة!) وفي خدمة (الخليفة)! أما الإمام زين العابدين، فقد بقي وحيدا في مواجهة المشكلات، مع أن الإرهاب والذعر كان يتحكم في الرقاب، ويستولي على النفوس. في مثل هذه الظروف أصبح (الدعاء) ملجأ للإمام وللإمامة، لا، بل موقعا اتخذه الإمام زين العابدين عليه السلام للصمود والهجوم: صمود ماذا؟ – صمود ذلك الفكر، وذلك الهتاف، وذلك الإيمان، الذي جندت الدولة الأموية كل الإمكانات في العالم الإسلامي ضده. والهجوم على من؟
– للهجوم على سلطة تمكنت من كل قواعد القدرة، وسلبت من الأمة كل إمكانات المقاومة! فكان الدعاء هو سلاح النضال. ومعنى ذلك: أنه إذا طوقت مقاومة، أو فكرة، أو نضال، وأدت بها الظروف إلى مثل ما حصل في (كربلاء) إذ تعرض كل رجالها للإبادة الدامية، ولم يبق سوى رجل (واحد) ووقع كل النساء والصغار في الأسر، وتحت القيود، وإذا لم تبق أية إمكانية للعمل المسلح، والدفاع عن الحق بالقوة، فإن هذا الرجل الوحيد لا تسقط عنه المسؤولية. إنه مسؤول أن يدرب الأمة على القناعة بأن على عاتقه إحياء الفكرة، وتحريك الأحاسيس، والدفاع عن ذلك الحق، ولو بلسان الدعاء، وجعل الرسالة مستمرة ولو بالأمل والرجاء، ونقلها كذلك إلى الأجيال. إن الإمام زين العابدين عليه السلام: وإن كان قد فقد إمكانات التضحية والنضال المستميت إلى حد الشهادة، كما فعل أبوه الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء. وفقد إمكانات العمل الاجتماعي الحر، كما قام به ابنه الإمام الباقر وحفيده الإمام الصادق عليهما السلام.
لكنه لم يفقد فرصة المقاومة من طريق هذه الحربة النافذة في أعماق أشلاء النظام الحاكم، والقابلة للتغلغل في أوساط المجتمع الفاسد، والسارية مع كل نسيم، والممكنة في كل الظروف، والتي اسمها (الدعاء). وإن قيل: إن هذا هو من أضعف فروض النضال والجهاد؟ قلنا: نعم، لكن الدعاء أمر ضروري حتى لو كان الإنسان في غير هذه الحال، فلو كان بإمكانه النضال والمقاومة، بأشكال أخر، أقوى وأقدر، فإن من المستحيل استغناؤه عن الدعاء، وليس بالإمكان أن يمنع من هذا النضال، ولو كان أضعف، فلا بد له أن يكون قادرا على عملية الدعاء، وأن يضمر في نفسه الارتباط بربه، وأن يعلن عن أفكاره وعقائده بأسلوب المناجاة والدعاء، ويعبر عن آماله وآلامه، ومكنون نفسه، وأن يبرز هتافاته، وأن يطالب برعباته المهضومة، والمغصوبة على أن من الضروري لكل مناضل أن يركز معتقداته، ويحدد مواقعه الفكرية ويحصن أصول دينه، حتى يكون على بصيرة من أمره، فيوحي إلى ذاته بالحق، ويوصي نفسه بالصبر عليه، بالدعاء. وليس في المقدور لأية سلطة حاكمة أن تسلبه هذه القدرة، أو أن تحاسبه على هذه الإرادة. وفي مثل هذا التركيز والتحديد يكمن سر خلود الإنسان، عندما يكون مهددا بالإبادة. والنطق بالدعاء. وسيلة للإعلان عن المعتقدات وتبليغ الرسالات وتنمية الشعور بالمسؤليات، في أحلك الظروف وأحرجها، وبث روح النضال والمقاومة، وتوثيق الرابطة الفكرية، وتأكيد التعهدات الاجتماعية، وتثبيت العواطف الصالحة، حبا بالتولي والإعلان عنه، وبغضا بالتبري وإبدائه، وتعميق الوعي العقائدي بين الأمة، وتهيئة الأجواء – روحيا وفكريا وجسميا – للإعداد للمسؤوليات الكبرى، كل ذلك في ظروف جندت فيه القوى المضادة، للقضاء على الأهداف كلها. إن الإمام في مثل ذلك عليه أن يخطط للعمل، عندما لا يستطيع المؤمن من القيام بأي عمل، حتى الموت الشريف، بعزة وكرامة، حيث لا طريق إلى اختيار الشهادة كسلاح أخير، لأن الشهادة – أيضا – تحتاج إلى أرضية وظروف مؤاتية، ومعركة، كي يتسنى للشهيد أن يفجر بدمه الوضع، ويكسر الصمت، وإلا فهو الموت الصامت غير المؤثر، المهمل الذي لا يستفيد منه إلا العدو. والإمام زين العابدين عليه السلام أصبح قدوة للنضال في مثل هذه الظروف بكل سيرته، ووجوده، ومصيره، وسكوته، ونطقه، وخلقه، ورسم بذلك منهاجا للعمل في مثل هذه الأزمات. إنه رسم الإجابة عن كل الأسئلة التي تطرح: عن العمل ضد إمبراطورية ضارية، مستحوذة على كل المرافق والقدرات؟! وعن الصمت الثقيل القاتل، المطبق، الذي يستحيل فيه التفوه بكلمة الحق، كيف يمكن أن يكسر؟ وعن أسلوب شخصي لعرض جميع الطلبات والقيم والعواطف؟
إن الصحيفة السجادية هي: كتاب الجهاد عند الوحدة! وكتاب التعبير عند الصمت! وكتاب التعبئة عند النكسة! وكتاب الهتاف عند الوجوم! وكتاب التعليم بالشفاه المختومة! وكتاب التسلح عند نزع كل سلاح! وهو قبل هذا وبعده، كتاب (الدعاء). إن الدعاء – كما يقول الدكتور الفرنسي الكسيس كارل -: (تجل للعشق والفاقة) وقد أضاف الإسلام إلى هذين: (التوعية). وفي مدرسة الإمام زين العابدين عليه السلام يأخذ الدعاء بعدا رائعا هو تأثيره الاجتماعي الخاص. وبكلمة جامعة: إن الدعاء في مدرسة الإمام زين العابدين – في الوقت الذي يعد كنزا لأعمق التوجهات، وأحر الأشواق، وأرفع الطلبات – منهاج يتعلم فيه المؤمن تخطيطا متكاملا للوجود والتفكير والعمل، على منهج الإمامة وبقيادة حكيمة تستلهم التعاليم من مصادر الوحي. ثانيا: مع الصحيفة السجادية مضمونا: إن الحديث عن هذا الكتاب العظيم وأثره العلمي والديني عقيديا وحضاريا وأثره الاجتماعي يحتاج إلى تفرغ وتخصص، وإلى وقت ومجال أوسع من هذا الفصل، ولا ريب أن النظر فيه سيوقف القارئ على مقاطع رائعة تدل على مفردات ما نقول بوضوح وصراحة. وإذا أخذ الإنسان بنظر الاعتبار ظروف الإمام زين العابدين عليه السلام وموقعه الاجتماعي وقرأ عن طغيان الحكام وعبثهم، وقارن بين مدلول الصحيفة ومؤشرات التصرفات التي قام بها أولئك الحكام، اتضح له أن الإمام قد قام من خلالها بتحد صارخ للدولة ومخططاتها التي استهدفت كيان المجتمع الإسلامي لتزعزعه.
السيد محمد رضا الجلالي