فقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجموعة من القيم والتعاليم التي ترتبط بطبيعة العلاقات الاجتماعيّة، باعتبار أنّ هذه العلاقات تؤكّد متانة الترابط بين أفراد المجتمع المسلم الواحد، وتسوسهم نحو التكامل، وتجعلهم كالبنيان، فقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “ما من عمل أفضل من إشباع كبد جائع”[1].
ويصوّر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في حديث آخر المسؤولية الاجتماعيّة المشتركة الملقاة على عاتق المسلمين جميعاً، قائلاً: “مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً”[2]، فإنّ أيّ خلل يصيب البناء الاجتماعيّ يعتبر بمثابة علامة خطر أكيدة في مسيرة البيئة الإسلاميّة كلّها، فإن تدارك المسلمون مكامن الخلل نجا مجتمعهم من التصدّع والانهيار.
العدالة الاجتماعيّة:
وتقودنا قضية الترابط الاجتماعيّ هذه إلى مسألة من أهم مسائل العدل الاجتماعيّ في الإسلام، وهي التكافل الاجتماعيّ الذي تأمر به الدولة. وثمّة أحاديث وقيم طرحها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تبيّن قضية التكافل الاجتماعيّ في الدولة الإسلاميّة. وقد أعلن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن تعهّد الدولة للفقراء والضعفاء والعاطلين والعاجزين، حيث يقول: “من ترك كلّاً – أي ذرية ضعيفة – فليأتني فأنا مولاه”، وقال: “من ترك ضياعاً فعليّ ضياعه”[3]، ونذكّر بحديثه الشهير: “ألا كلُّكم راع وكلُّكم مسؤول عن رعيّته”[4]، فالقائد راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، وبذلك يعلن صلى الله عليه وآله وسلم مسؤوليّة الحاكم أو الدولة الإسلاميّة عن رعاياها كافّة، وهي مسؤوليّة شاملة.
الوفاء بالوعد:
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: “إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واعد رجلاً إلى الصخرة، فقال: أنا لك هنا حتّى تأتي، قال: فاشتدّت الشمس عليه، فقال له أصحابه: يا رسول الله، لو أنّك تحوّلت إلى الظلّ، قال: وعدته ههنا وإن لم يجئ كان منه الحشر”[5].
يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: “من جملة أخلاقه الحكوميّة أنّه كان وفيّاً بالعهد، فلم يكن ينقض عهداً على الإطلاق. حيث لم تفِ قريش بعهودها معه إلّا أنّه لم يقابلها بالمِثل، كما لم يفِ اليهود بعهودهم مراتٍ عديدة، أمّا هو فلم يفعل ذلك[6].
لم ينقض الرسول العهد في أيّ من هذه القضايا. حتّى إنّ الأعداء يذعنون أنّ الرسول لم ينقض العهد في هذه القضايا، بل همُ الذين كانوا ينقضون العهد. ولم يتخلّف عن عهوده ومعاهداته مع الناس والمجموعات التي كان يقيم معها عهداً، حتّى مع أعدائه، بل حتّى مع كفّار مكّة، لم ينقض الرسول عهده واتّفاقه معهم، بل هم الذين كانوا ينقضون، أمّا الرسول فكان يقدّم جواباً قاطعاً، لذلك كان يعلم الجميع أنّهم عندما يعقدون اتفاقاً مع هذا الشخص، فإنّه يمكن الوثوق به”[7].
نقض العبودية:
اعتمد النبيّ سياسات عديدة في معالجة التحدّيات الاجتماعيّة، وفي معالجة ما ترسّب في عقول الناس وعاداتهم من المجتمع الجاهليّ وغيره، ومنها المعالجة الاجتماعيّة لظاهرة العبوديّة، وقضية التبنّي التي كانت منتشرة بين الناس. ومن الشواهد على ذلك قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لقريش: “يا من حضر، اشهدوا أن زيداً ابني أرثه ويرثني”[8].
وانتقل زيد من رقّ العبوديّة إلى بنوة أكرم خلق الله، وآمن زيد بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من أوّل أيّام البعثة المباركة، ولمّا بلغ مبلغ الرجال زوّجه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من زينب بنت جحش (ابنة عمّته) مع ما لها من مكانة اجتماعيّة ونسب رفيع، وبذلك ضرب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مثالاً رائعاً للقضاء على الأعراف الجاهليّة، تطبيقاً لقيم الرسالة الخالدة. ولكن تفاوت الثقافة وتنافر الطباع حالا دون نجاح مثل هذا الزواج لاحقاً، ثم نزل الأمر الإلهيّ ليبطل ما تعارف عليه العرب من اعتبار الأدعياء (من ادُّعيت بنوّتهم) أبناءً فقال – تعالى -: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾[9]، وأبقى لهم حقّ الموالاة والأخوّة في الدين.
وأراد الله سبحانه أن ينسف هذا العُرف الباطل، فأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يتزوج زينب بعد طلاقها من زيد، وبعد إكمال عدّتها، وذلك بعد نزول الآيات الكريمة التي تحثّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على إبطال هذا العرف الجاهليّ، وأن لا يخشى الناس، وأن يمضي في تطبيق أحكام الله – تعالى – بكل شجاعة.
الأخوّة:
تبرز تجربة المؤاخاة المعروفة في مقدمة الممارسات التي نفّذها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة، وقد أراد صلى الله عليه وآله وسلم أن يحلّ بهذا الإجراء الأزمة المعيشيّة التي اجتاحت المهاجرين بعد مغادرتهم مكّة، مخلّفين وراءهم أموالهم وممتلكاتهم، فنظّم علاقاتهم الاجتماعيّة بإخوانهم الأنصار عن طريق المؤاخاة.
وكان كثيراً ما يشدّد على أهمية الأخوّة وفضلها، ووضع مبادئها بين المسلمين، قال صلى الله عليه وآله وسلم: “المؤمنون إخوة، يقضي بعضهم حوائج بعض، فبقضاء بعضهم حوائج بعض يقضي الله حوائجهم يوم القيامة”[10].
وكان يدعو إلى ترجمة هذه الأخوّة من خلال قضاء حوائج المؤمنين، حيث يقول صلى الله عليه وآله وسلم: “من قضى لأخيه حاجة كنت واقفاً عند ميزانه، فإن رجح وإلا شفعت له”[11].
ويقول في موضع آخر: “أحبّ الأعمال إلى الله – عزّ وجلّ – سرور يدخله مؤمن على مؤمن، يطرد جوعه، أو يكشف عنه كربة”[12].
النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قدوة للعالمين، دار المعارف الإسلامية الثقافية
[1] القضاعيّ، محمد بن سلامة، مسند الشهاب، حمدي عبد المجيد السلفيّ، مؤسّسة الرسالة – بيروت، 1405 – 1985م، ط1، ج2، ص250.
[2] البخاريّ، صحيح البخاريّ، مصدر سابق، ج3، ص111.
[3] الشيخ الطوسيّ، تهذيب الأحكام، مصدر سابق، ج6، ص211.
[4] الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، دار الكتاب العربي، بيروت، لا. ت، لا. ط، ج4، ص115.
[5] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص24.
[6] من كلام له في لقاء مسؤولي النظام (29/9/1374)، (20/12/1995).
[7] خطبتا صلاة الجمعة في طهران (28/2/1380)، (18/5/2001).
[8] ابن سعد، الطبقات الكبرى، مصدر سابق، ج3، ص42.
[9] سورة الأحزاب، الآية 4.
[10] الشيخ المفيد، الأمالي، مصدر سابق، ص150.
[11] الحلّيّ، العلّامة الحسن بن يوسف بن المطهّر، الرسالة السعديّة، إشراف السيد محمود المرعشيّ، إخراج وتعليق وتحقيق عبد الحسين محمد علي بقال، كتابخانه عمومى حضرت آية الله العظمى مرعشي نجفي، إيران – قمّ، 1410هـ، ط1، ص162.
[12] الصوريّ، الحسن بن طاهر، قضاء حقوق المؤمنين، تحقيق حامد الخفّاف، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، لا. م، لا. ت، لا. ط، ص18.