إنّ الدُّنيا دار عمل ولا حساب فيها، والآخرة دار حساب ولا عمل فيها، إذ يُجزى كلّ إنسان حسب عمله، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ. قال تعالى: ﴿وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾[1]. في الحقيقة هناك علاقةٌ مباشرةٌ بين عمل الإنسان في الدُّنيا وحاله في الآخرة، فلا انفكاكَ بين العمل وجزائه، بل الجزاءُ هو باطنُ العمل، والآخرةُ هي ظرف ظهور الجزاء لا وجوده. فكلُّ عملٍ سوف يتجسَّمُ في الآخرة، فيراها الإنسان بصورةٍ مجسَّدةٍ تُحاكي طبيعة عمله الدُّنيوي، فتكون سبباً لسعادته أو شقائه. وفيما يلي نذكر أهمّ الآثار الأخروية للذنوب والمعاصي:
1- استحقاق دخول النّار:
قال الله تعالى: ﴿بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[2] فمن الآثار المعروفة للذُّنوب والمعاصي أنّ مرتكبها إذا لم يتب فهو مستحقٌّ لدخول النّار، وقوله تعالى – في آية أخرى – يؤكِّد هذه الحقيقة: ﴿وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[3].
هذه الآيات الشريفة تُبيّن أنّ هناك من يدخل النّار بسبب بعض أعماله التي قام بها في عالم الدُّنيا، لكن لا يُخلَّد فيها، لأنَّ استحقاق الدُّخول إلى النّار يُتصوَّر بسببين، هما: الكفر بالله تعالى، والتمرُّد على الله ومعصيته، والاستحقاق هو غير الخلود في النّار الذي يكون بخصوص الكفر أو الشرك.
روي عن الإمام الكاظم عليه السلام: “لا يُخلِّد الله في النّار إلا أهل الكفر والجحود، وأهل الضلال والشرك”[4]، فالمؤمن الفاسق خارجٌ عن كلِّ الأقسام التي ذكرها الإمام عليه السلام في هذه الرِّواية.
رغم كلِّ ما تقدَّم من أنّ المؤمنَ لا يُخلَّد في النّار، ولكن هذا لا يعني عدم فعليّة دخوله إلى النّار، فقد ورد في الرِّوايات أنَّ بعضَ الذّنوب توجبُ تطويلَ أمدِ العذاب، ويُعاقب عليها بألوانٍ متعدِّدة، أو إنَّ الشَّفاعة قد لا تصلُ إليه إلا بعد مئات السِّنين، روي عن النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّ العبد ليُحبس على ذنب من ذنوبه مئة عام، وإنّه لينظر إلى أزواجه في الجنّة يتنعّمن”[5]، والحديث فيه دلالةٌ على أنّ الذَّنبَ يمنعُ من دخول الجنَّة مدّةً من الزَّمن، ولا دلالة فيه على أنّه في تلك المدّة يكون في النّار أو في شدائد القيامة.
وروي عن الإمام علي عليه السلام أنَّه قال: “لا تتَّكلوا بشفاعتنا، فإنَّ شفاعتنا لا تلحق بأحدكم إلا بعد ثلاثمئة سنة”[6]، والحديث يوضح أنّ الشفاعة قد تأتي إذا مات المؤمن على التوحيد والنبوّة والإمامة، ولكن بعد ثلاثمئة سنة، ومقدار السنة عند الله يختلف عن مقدارها عندنا.
وهناك آيات كثيرة أخرى تُشير إلى خلود الكفّار والمنافقين في النّار، كقوله تعالى: ﴿وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾[7]، فالكافر والمنافق يُخلّدان في النّار دون المؤمن كما تقدّم.
2- الفضيحة في الآخرة:
قال الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾[8]، الأشهاد: جمع شاهد، وهم الذين يشهدون بالحقّ للمؤمنين على المبطلين والكافرين يوم القيامة، وفي ذلك سرور للمُحقّ وفضيحة للمبطل، في ذلك اليوم العظيم.
تُشير الآية إلى معنىً دقيق، وهو أنّ يوم الأشهاد هو اليوم الذي يُبسَط فيه الأمر في محضر الله تعالى، وتنكشف السرائر والأسرار لكافّة الخلائق، وهو يوم تكون الفضيحة فيه أفظع ما تكون، ويكون الانتصار فيه أروع ما يكون، إنّه اليوم الذي ينصر الله فيه الأنبياء ويزيد في كرامتهم، وإنّه يوم افتضاح الكافرين وسوء عاقبة الظالمين، ويوم لا يحول شيء دون افتضاح الظالمين أمام الأشهاد[9]. قيل: الأشهاد أربعة: الملائكة، الأنبياء، أمّة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الجوارح[10]. وما يهم في الأمر أنّ العبرة من قيام الأشهاد، واعتبار قولهم هو بيان شدَّة إظهار الفضيحة.
لذا ينبغي على الإنسان المؤمن العاقل أن يخافَ أهوالَ ذلك اليومِ العظيمِ، وأنْ يخافَ الفضيحةَ أمامَ الله ورُسله والأمم والنَّاس أجمعين.
عن أمير المؤمنين عليه السلام في المناجاة الشَّعبانية: “إلهي، قد سترتَ عليَّ ذنوباً في الدُّنيا، وأنا أحوج إلى سترها عليَّ منك في الأخرى. إلهي، قد أحسنت إليّ إذ لم تُظهرها لأحد من عبادك الصالحين، فلا تفضحني يوم القيامة على رؤوس الأشهاد…”[11].
3- الذلّ والهوان:
من المشاهد التي تظهر يوم القيامة مشهد الذلّ والهوان اللذين يُصيبان العصاة. كقوله تعالى: ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾[12]، أي وجوهٌ تظهر عليها علائم الخزي والهوان، ثم يصفها بأوصافٍ أخرى كقوله: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾[13]، أي إنَّ هؤلاء العصاة كانوا يعملون في الدُّنيا بجدٍّ ولكن لغير الله تعالى، فمع كلِّ تعبهم وعنائهم لم يستفيدوا شيئاً من أعمالهم، فتكونُ آثارُ الخيبةِ باديةً على وجوههم يوم القيامة، وزيادةً في بيان حالهم من الذُّلّ والهوان، يقول الله تعالى: إنّ هذه الوجوه: ﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾، أي تُقاسي حرّ النّار وتُعذَّب بها، لأنّ أعمالهم في الدُّنيا كانت خاسرةً، غلبها الشرّ وفارقها الخير. وهناك آيات أخرى أيضاً تدلّ على هذا المعنى كقوله تعالى: ﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ﴾[14].
4- الحسرة والندامة:
إنّ أحد أوصاف يوم القيامة هو: “يوم الحسرة والندامة”، قال الله تعالى: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾[15]، ويُستفاد من الآية:
أولاً: إنّه في يوم الحسرة والندامة يندم الكافر على كفره، والظَّالم على ظلمه، والمقصِّر في طاعة ربِّه على تقصيره، لكن المشكلة أنّه يوم لا ينفع فيه الندم.
ثانياً: ينبغي أن لا يكون المؤمن في غفلةٍ، بل على استعدادٍ دائمٍ للقاء الله تعالى.
فإنّ من عِظَم الحسرة التي تُصيب أهل النّار أنّ الواحد منهم يتمنَّى أن يفدي نفسه من عذاب الله بماله وولده والنَّاس أجمعين، بل بملك الدُّنيا بأسرها، مع أنّه طُلب منه ما هو أهون من ذلك فلم يفعل، قال تعالى: ﴿يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ﴾[16].
5- تجسّم الأعمال بصورٍ قبيحة:
من الآثار الأخرويّة للذنوب تجسّد الأعمال بصورةٍ تتناسبُ مع طبيعة الذَّنب.
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ…﴾[17].
وهذه الآية تُبيّن تجسيم الأعمال في الآخرة، وتدلّ على أنَّ الأموالَ المكتسبة عبر هذا الطَّريق المحرَّم، هي في الواقع نيرانٌ تدخلُ في بطونهم، وتتجسَّمُ بشكلٍ واقعيٍّ في الآخرة.
قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ﴾[18].
تشيرُ هذه الآية إلى حضور الأعمال الصَّالحة والسيِّئة يوم القيامة، فيرى كلّ امرئٍ ما عملَ من خيرٍ وما عملَ من شرٍّ حاضراً أمامه، فالذين يشاهدون أعمالهم الصَّالحة يفرحون ويستبشرون، والذين يشاهدون أعمالهم السيّئة يستولي عليهم الرُّعب، ويتمنُّون لو أنَّهم استطاعوا أن يبتعدوا عنها، ولم تقل الآية: يتمنّون فناء أعمالهم وسيّئاتهم، لأنّهم علموا أنَّ كلَّ شيءٍ في ذاك العالم لا يفنى، فلذلك تمنّوا الابتعاد عنها.
فالإنسان يجد أعماله الحسنة والقبيحة يوم القيامة مهما كانت قليلة، وهذا ينسجم مع كلمة “تجد”، من الوجود من العدم في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرً﴾[19].
هدى وبشرى، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
[1] سورة النساء، الآية 14.
[2] سورة البقرة، الآية 81.
[3] سورة النمل، الآية 90.
[4] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج8، ص351.
[5] الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص272.
[6] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج70، ص331.
[7] سورة التوبة، الآية 68.
[8] سورة غافر، الآية 51.
[9] الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج 15، ص283، بتصرف -.
[10] راجع: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج22، ص442.
[11] الشيخ الصدوق، إقبال الأعمال، ج3، ص297.
[12] سورة القلم، الآية 43.
[13] سورة الغاشية، الآيات 1 – 4.
[14] سورة الأنعام، الآية 124.
[15] سورة مريم، الآية 39.
[16] سورة المعارج، الآيات 11 – 14.
[17] سورة البقرة، الآية 174.
[18] سورة آل عمران، الآية 30.
[19] راجع: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل،ج2، ص463 بتصرف -.