تبدأ قصّة ولادة السيدة مريم بنت عمران (عليهما السلام) للنبي عيسى (عليه السلام)، حيث أرسل الله تعالى الملك جبريل (عليه السلام) يُبشّر مريم (ع) بولادة نبيّ الله عيسى (ع)، وتفصيل ذلك فيما يأتي:-
عُرِفت مريم (ع) بعفَّتها وطهارتها، فكانت قدوةً للمؤمنات الصَّالحات، حيث قال تعالى:- (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)،[سورة التحريم، آية 12] وبينما هي في خلوتها تَعبُد الله -تعالى- وإذ برجلٍ يأتي إليها، وورد ذلك في قوله -تعالى:- (فَأَرسَلنا إِلَيها روحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا).[سورة مريم، آية 17] انتفضت السّيّدة مريم (ع) مذعورةً، واستعاذت بالله تعالى منه والتجأت إلى ربها كما في قوله -تعالى:- (قالَت إِنّي أَعوذُ بِالرَّحمـنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا)،[سورة مريم، آية 18] وقد اختصَّت اسم الله الرحمن؛ لأنَّها أرادت برحمته أن يصرف عنها من أتاها.
بدأت مريم (ع) تُذكِّره بتقوى الله -تعالى- وتذّكره بالله لعلَّه يتراجع، وإذ به يخبرها أنَّه إنَّما جاءها لِيَهَب لها غلاماً زكيَّاً طاهراً من الذُّنوب ومُطهَّراً من المعاصي والنقائص، قال -تعالى:- (قالَ إِنَّما أَنا رَسولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا)،[سورة مريم، آية 19] فقالت كما ورد في القران الكريم في قوله تعالى:- (أَنّى يَكونُ لي غُلامٌ وَلَم يَمسَسني بَشَرٌ وَلَم أَكُ بَغِيًّا).[سورة مريم، آية 19] علمت مريم (ع) أنَّ هذا مَلَكٌ مرسلٌ من عند الله تعالى، وأنَّه صادقٌ فيما يقوله، لكنَّها تعجَّبَت كيف ستتحقَّق هذه المعجزة؛ فالولادة لا يمكن أن تكون إلا بحملٍ من رجلٍ، وهي لم تتزوَّج ولم تقم بفعل معصيةٍ تؤدِّي إلى الحمل، فردَّ عليها جبريل (ع) كما قال تعالى في القرآن الكريم: (قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ وَرَحمَةً مِنّا وَكانَ أَمرًا مَقضِيًّا).[سورة مريم، آية 21]، فالله عزّ وجلّ بقدرته وإرادته الذي خلق آدم (ع) من تراب قادرٌ على خلق ولدٍ من غير أبٍ، ليجعله آيةً للنَّاس تدلُّ على قدرة الله تعالى وإرادته المطلقة، وأنَّ ما اعتاده النَّاس من ولادة المرأة بعد حملها من رجلٍ يمكن أن يغيِّره الله تعالى بمعجزةٍ، فيجعله الله تعالى رحمةً منه رسولاً ونبيَّاً، وهذه الأمر والإرادة نافذةٌ لا شكَّ ولا رجوع فيها.
وقد تحقَّقت إرادة الله تعالى بقوله: “كُن فيكون”، والحقيقة أنَّ قول الله تعالى في تكوين عيسى (ع) بقوله “كُن”، هو أقصر ما يمكن أن يُعبَّر عنه، لكنَّ أمر الله تعالى قد تحقَّق قبل ذلك، وإنَّما قوله “كُن” كان ليُظهر هذا الأمر للخلق.
سلَّمت مريم بنت عمران (عليهما السلام) أمرها لله تبارك وتعالى ولإرادته بعدما بعث لها الملك جبريل (ع) يبشِّرها وهي في خلوتها بالاصطفاء من الله تعالى، وبأنَّها ستُنجِب من غير زوجٍ، فخرجت من مكانها متوجِّهةً إلى شرقيّ المسجد الأقصى، فأرسل الله عزَّ وجل لها المَلَك يبشِّرها بابنها.
قال الله تبارك وتعالى واصفاً ذلك في القرآن الكريم: (وَاذكُر فِي الكِتابِ مَريَمَ إِذِ انتَبَذَت مِن أَهلِها مَكانًا شَرقِيًّا* فَاتَّخَذَت مِن دونِهِم حِجابًا فَأَرسَلنا إِلَيها روحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا* قالَت إِنِّي أَعوذُ بِالرَّحمـنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا* قالَ إِنَّما أَنا رَسولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا* قالَت أَنّى يَكونُ لي غُلامٌ وَلَم يَمسَسني بَشَرٌ وَلَم أَكُ بَغِيًّا* قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ وَرَحمَةً مِنّا وَكانَ أَمرًا مَقضِيًّا).[سورة مريم:16-21].
ولادة مريم لعيسى عليه السلام
خافت السيدة مريم (عليها السَّلام) من قومها وخشيت نظراتهم لها واتّهامهم لها بارتكاب الفاحشة، فالتجأت إلى مكانٍ بعيدٍ عنهم، وقد وصف الله تعالى ذلك فقال: (فَحَمَلَتهُ فَانتَبَذَت بِهِ مَكانًا قَصِيًّا)،[سورة مريم، آية 22 ] ولعلَّ ما سيصدر منهم طبيعياً؛ فهي امرأةٌ عذراء لم تتزوَّج، ومعروفةٌ بعبادتها وصلاحها وتقواها، ولكي تنجو بنفسها توجَّهت إلى مكانٍ شرقيّ بيت لحم، فولدت المسيح عيسى (على نبينا وآله وعليه السلام) فيها.
حَضَرت مريم (ع) آلام الوِلادة وهي تحت جذع النَّخلة تستند إليه ، فتمنَّت حينها أنَّها ماتت منذ زمن وتمَّ نسيانها، وذلك من خوفها من عتاب قومها ولومهم لها، (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىَ جِذْعِ النّخْلَةِ قَالَتْ يَلَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مّنسِيّاً )[سورة مريم:22، 23].
فلمَّا ولدت ناداها الملك جبريل (ع) ألَّا تخافي ولا تحزني يا مريم، فقد وهب الله تبارك وتعالى لكِ غلاماً زكيَّاً، وأمرها أن تَهُزَّ بجذع النَّخلة وأن تأكل من ثمارها، وألَّا تُكلِّم أحداً من البشر، وأن تنذر صومها عن الكلام لله تعالى،[فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً وَهُزّىَ إِلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرّي عَيْناً فَإِمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِيَ إِنّي نَذَرْتُ لِلرّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً [سورة مريم: 24-26] وأنَّ الله تبارك وتعالى أجرى لها نهراً من الماء لتشرب منه وتنتفع باستخدام مائه، (فَنَادَىٰهَا مِن تَحْتِهَآ أَلَّا تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا )، وأنَّ ولدها سيكفيها حين يسألها النَّاس، ففعلت مريم (ع) كما أمرها الله تعالى، فهزَّت الجذع فتساقط عليها رُطَباً فأكلت منها، وشربت من ماء النَّهر، وامتنعت عن الكلام، .
كرامات مريم حين ولدت عيسى عليه السلام
كان لمريم بنت عمران (عليهما السلام) عدَّةُ كراماتٍ خصَّها الله تبارك وتعالى بها دون غيرها من النِّساء، نورد منها ما يأتي:-
1- فجَّر الله تبارك وتعالى لها من الأرض نهراً يجري الماء فيه، وهو المراد بقوله تعالى في القرآن الكريم: (قَد جَعَلَ رَبُّكِ تَحتَكِ سَرِيًّا)، فقد قال بعض المفسِّرين أنَّ السريَّ هو النَّهر الصَّغير، وقد سُمِّي بذلك لجريان الماء فيه، ولم يكن هذا النَّهر موجوداً قبل ذلك، وقال آخرون أنَّ السريَّ هو ذو المكانة العالية، بمعنى أنَّ الله -عزَ وجل- قد جعل ابنك الذي تحتك ذو مكانةٍ عاليةٍ وقدرٍ عظيمٍ حينما يكبر.
2- أنبت الله تبارك وتعالى عندها شجرة النَّخيل وأمرها أن تأكل منها (ملاحظة: ولدت مريم (ع) قرب نخلة وليس قرب شجرة الصنوبر كما تتخذها الاقوام النصرانية رمزا لعيد الميلاد)، وقال لها كما ورد في كتابه الكريم: (وَهُزّي إِلَيكِ بِجِذعِ النَّخلَةِ تُساقِط عَلَيكِ رُطَبًا جَنِيًّا) (سورة مريم، الآية 25)، والجنيُّ هو الثَمَر الذي نضج حتى حان موعد قطافه، على الرغم من أنَّ ذلك الوقت لم يكن موسم ثمرها، وفي قول الله تبارك وتعالى:- (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)،[سورة المؤمنون، الآية 50] دلالةً على أنَّ الله تعالى آواها وابنها في مكانٍ آمنٍ مثمرٍ، ومهيَّأٍ لما يلزمها من الطَّعام والشَّراب، حتى يساعدها على رعاية طفلها، أمَّا فيما يتعلَّق بأمره لها أن تَهُزَّ شجرة النخيل رغم ضعفها؛ فإنَّ الله قادر على أن يُطعمها منها دون أن تقوم بهزِّها، لكنَّه أراد أن يعلِّمها مبدأ الأخذ بالأسباب مع التوكُّل على الله تبارك وتعالى.
نبذة عن نبيّ الله عيسى عليه السلام
اسمه عيسى ابن مريم (عليهما السلام)، ولَقَبه المسيح، وقد نُسِبََ إلى أمِّه لعدم وجود أبٍ له، كما جعله الله تعالى كما في قوله: (وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)،[سورة آل عمران، الآية 45] مُبشِّراً أمَّه أنَّه سيكون في الدُّنيا من الأنبياء والصَّالحين وفي الآخرة مع زمرة المقرَّبين من الأنبياء والشهداء والصَّالحين، ثمَّ أخبرها فقال عزَّ وجل:- (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ)،[سورة آل عمران، الآية 46]، وأنّ عيسى (ع) سيكلِّم النَّاس في طفولته وفي كهولته كلاماً قويماً مفهوماً. حيث كلَّم النَّاس في طفولته ليثبت براءة أمِّه ممَّا اتّهمها به قومها، فقال تعالى:- (قالَ إِنّي عَبدُ اللَّـهِ آتانِيَ الكِتابَ وَجَعَلَني نَبِيًّا* وَجَعَلَني مُبارَكًا أَينَ ما كُنتُ وَأَوصاني بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمتُ حَيًّا* وَبَرًّا بِوالِدَتي وَلَم يَجعَلني جَبّارًا شَقِيًّا* وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَومَ وُلِدتُ وَيَومَ أَموتُ وَيَومَ أُبعَثُ حَيًّا)،[سورة مريم: 30-33] وثمّ صار نبيّاً وبلّغهم دعوة الله تعالى، وفي كلا الحالين تكريماً ورفعة من الله تعالى له يُظهر معجزة الله تعالى فيه وتأييده له.
والمُراد بالمسيح؛ أي الممسوح من الذُّنوب، أو لأنَّ معجزته المسح على المريض فيُشفى بإذن الله، أو هو بمعنى المُبارك.
أيمكن أن يكون لله ولد!؟
ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون
وجاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي – ج 9 – الصفحة 445- 446):
الآيتان ((ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون (*) ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (*)(سورة مريم، الآية 34-5 ).
بعد تجسيد القرآن الكريم في الآيات السابقة حادثة ولادة المسيح (ع) بصورة حية وواضحة جدا، انتقل إلى نفي الخرافات وكلمات الشرك التي قالوها في شأن عيسى (ع)، فيقول: ذلك عيسى بن مريم خاصة وأنه يؤكد على كونه ” ابن مريم ” ليكون ذلك مقدمة لنفي بنوته لله سبحانه.
ثم يضيف: (قول الحق الذي فيه يمترون) وهذه العبارة في الحقيقة تأكيد على صحة جميع ما ذكرته الآيات السابقة في حق عيسى (ع) ولا يوجد أدنى ريب في ذلك.
أما ما يذكره القرآن الكريم من أن هؤلاء في شك وتردد من هذه المسألة، فربما كان إشارة إلى أنصار وأعداء المسيح (ع)، وبتعبير آخر: إشارة إلى اليهود والنصارى، فمن جهة شككت جماعة ضالة بطهارة أمه وعفتها، ومن جهة أخرى شك قوم في كونه إنسانا، حتى أن هذه الفئة قد انقسمت إلى مذاهب متعددة، فالبعض اعتقد بصراحة أنه ابن الله (الابن الروحي والجسمي الحقيقي لا المجازي !) ومن ثم نشأت مسألة التثليث والأقانيم الثلاثة.
والبعض اعتبر مسأله التثليث غير مفهومة وواضحة من الناحية العقلية، واعتقدوا بوجوب قبولها تعبدا، والبعض الآخر تخبط بكلام لا أساس له في سبيل توجيه المسألة منطقيا.
والخلاصة: فإن هؤلاء جميعا لما لم يروا الحقيقة – أو أنهم لم يطلبوها ولم يريدوها – سلكوا طريق الخرافات والأساطير !
وتقول الآية التالية بصراحة: (ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمر فإنما يقول له كن فيكون) وهذا إشارة إلى أن اتخاذ الولد “كما يظن المسيحيون في شأن الله تعالى” لا يناسب قداسة مقام الألوهية والربوبية، فهو يستلزم من جهة الجسمية، ومن جانب آخر المحدودية، ومن جهة ثالثة الاحتياج، وخلاصة القول: تنزيل الله سبحانه من مقام قدسه إلى إطار قوانين عالم المادة، وجعله في حدود موجود مادي ضعيف ومحدود.
والحمد لله رب العالمين