ما المقصود بـ “الفقيه” في الروايات الشريفة كقوله (ع): “الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤيسهم من روح الله، ولم يؤمنهم من مكر الله” وهكذا في نصوص عديدة ورد فيها هذا اللفظ.
الوقوف على معنى كلمة (الفقيه) في النصوص الدينية يتوقف على معنى كلمة (الفقه) في النصوص أيضاً، وما هو معلوم أن كلمة الفقه في اللغة تطلق ويراد منها مطلق الفهم، بينما يراد منها في الاصطلاح الفهم على نحو خاص وهو العلم بالأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
ومن غير الجائز تفسير كلمة الفقه التي وردت في النصوص بالمعنى الاصطلاحي للفقه، وإنما يجب تفسيرها بما يتطابق مع الدلالة اللغوية، ومن هنا وجب التحقيق في معنى كلمة الفقه لغوياً بما ينسجم مع سياقاتها في النصوص الدينية.
إذا رجعنا للآيات القرآنية نجد أنها تميز بين الفهم الناتج عن التفكر وبين الفهم الناتج عن التدبر، حيث نجد أن الآيات أطلقت كلمة (فقه) بشكل خاص على الفهم الناتج عن التدبر دون التفكر، ولأثبات ذلك لابد من بيان مجموعة من المقدمات.
المقدمة الأولى: أن معظم الآيات التي جاء فيها الأمر بالتفكر لها علاقة بالأمثال والقصص والتفكر في آيات الكون، ولم نجد آية تأمر بشكل مباشر بالتفكر في آيات القرآن، وإنما نجد القرآن قد استخدم لفظة أخرى لهذه المهمة وهي كلمة (تدبر)، قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا). وقال: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا). وقال: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إليكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ). وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ).
المقدمة الثانية: أن كلمة تدبر جاءت مرتبطة بالأقوال (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إليكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) أي أن موضوعات التدبر هي الأقوال والنصوص، سواء كانت مكتوبة أو منطوقة، وعلى ذلك يكون الغرض من التدبر هو (فهم القول) على الوجه الذي وضع له، سواء كان هذا الفهم على نحو الكشف عن الدلالة مثل (الدلالة الاستعمالية أو المراد الجدي)، أو على نحو الحِكمة وما يرمي إليه القول من دلالة بعيدة، أو على نحو الكشف عن خلفية القول وما يرتكز عليه من مبررات، المهم أن التدبر مرتبط دائماً بالأقوال والنصوص.
المقدمة الثالثة: استخدم القرآن كلمة فقه فيما يرتبط بفهم الأقوال، قال تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا). حيث وصفت الآية فهم القول بالفقه. وفي آية أخرى يقول تعالى: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي). وهنا طلب موسى أن يجعله ممن يفقهون قوله. وقال تعالى: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ …). وقال تعالى: (…قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللهِ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا). وعليه هناك ربط وثيق بين فهم القول وبين الفقه، أي أن فهم القول يطلق عليه قرآنياً فقه، وفي المقدمة الثانية ثبت أن هناك ربط بين القول وبين التدبر، وبذلك يصبح التدبر هو الطريق إلى فقه القول.
المقدمة الرابعة: هناك ربط بين عدم التدبر وبين أقفال القلوب قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا). وفي المقابل هناك ربط بين عدم الفقه وبين أقفال القلب قال تعالى: (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ). وقال تعالى: (… إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا…) وقال: (رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ). وقال: (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إليكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا). فهذه الآيات تؤكد على أن الطبع على القلب هو الذي يمنع من حصول الفقه، وطبع القلب هو ذاته الذي يمنع من التدبر، وبذلك يصبح الفقه في لسان الآيات ليس مطلق الفهم وإنما هو فهم خاص له علاقة بالتدبر في النصوص والآيات.
وإذا صحت هذه المقدمات فإن كلمة فقيه التي وردت في الروايات يقصد منها العالم الذي له معرفة ودراية بالنصوص الشرعية، وقد عبرت الروايات عن ذلك بشكل واضح وصريح، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «اعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يُحسنون من رواياتهم عنّا، فإنّا لانعدّ الفقيه منهم فقيهاً حتى يكون مُحَدَّثا، فقيل له: أوَ يكون المؤمن مُحَدَّثاً؟ قال: يكون مفهَّماً، والمُفَهَّمُ المُحَدَّث»
وعن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «خبر تدريه خير من عشرة ترويه. إنَّ لكل حق حقيقة ولكل صواب نوراً، ثم قال: إنا والله لانعدّ الرجل من شيعتنا فقيهاً حتى يُلْحَن له فيعرف اللحن»
وقال عليه السلام: «حديث تدريه خير من ألف ترويه، ولا يكون الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف معاريض كلامنا، وإنَّ الكلمة من كلامنا لتنصرف على سبعين وجهاً، لنا من جميعها المخرج»
وروي عنه (عليه السلام) انه قال لأبي عبيدة الحذاء: «إنّا لانعدّ الرجل فقيهاً عالماً حتى يعرف لحن القول وهو قول الله عزّ وجل: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)»
وكذلك الحال في الرواية التي أشار إليها السائل، فالرواية بتمامها كالتالي: عَنْ أَبي عَبْدِاللهِ (عليه السلام)، قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «أَلا أُخْبِرُكُمْ بِالْفَقِيهِ حَقِّ الْفَقِيهِ؟! مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللهِ، وَلَمْ يَتْرُكِ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلى غَيْرِهِ؛ أَلا لا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ، أَلا لا خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ، أَلا لا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَفَكُّرٌ» فذيل الرواية يؤكد على العلاقة الوثيقة بين التدبر وبين الفقه، حيث ربط الإمام بين الفهم وبين التدبر، وهكذا يكون الفقيه هو العالم بالنصوص والعارف بمعاريضها، أو هو الناطق بلسان النصوص، فكما لا تقنط النصوص من رحمة الله كذلك يفعل الفقيه، وكما أن النصوص لا تؤمن الناس من عذاب الله ولا ترخص لهم في المعاصي كذلك يفعل الفقيه، وبذلك يكون الفقيه هو العالم المعبر عن النصوص الدينية.
فوظيفة النصوص هي إعطاء الإنسان بصيرة في الدين، وفقه النص بالتدبر فيه هو الذي يحقق هذه البصيرة، نقل المازندراني في شرح الكافي عن الشيخ البهائي أنّه قال: ليس المراد بالفقه الفهم ولا العلم بالأحكام الشرعيّة العمليّة عن أدلّتها التفصيليّة فإنّه معنى مستحدث، بل المراد به البصيرة في أمر الدّين والفقه أكثر ما يأتي في الحديث بهذا المعنى والفقيه هو صاحب هذه البصيرة.