إن قابيل حين قتل أخاه ترك جثته في العراء حائرا لا يدري ما يفعله، فلم يمض وقت حتى حملت الوحوش المفترسة على جثة “هابيل” فاضطر “قابيل” (ربما نتيجة لضغط وجداني شديد) إلى حمل جثة أخيه مدة من الزمن …
إن قابيل حين قتل أخاه ترك جثته في العراء حائرا لا يدري ما يفعله، فلم يمض وقت حتى حملت الوحوش المفترسة على جثة “هابيل” فاضطر “قابيل” (ربما نتيجة لضغط وجداني شديد) إلى حمل جثة أخيه مدة من الزمن لإنقاذها من فتك الوحوش، لكن الطيور الجارحة أحاطت به وهي تنظر أن يضعها على الأرض للهجوم عليها ثانية ، وفي تلك الاثناء بعث الله غرابا فأخذ يحفر الارض ويزيح التراب ليدفن جسد غراب ميت آخر، أو ليخفي جزءا من طعامه – كما هي عادة الغربان – وليدل بذلك “قابيل” كيف يدفن جثة أخيه، حيث تقول الآية الكريمة، ﴿ فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ ﴾.
ولا غرابه في أن يتعلم انسان شيئا من طير من الطيور، فالتاريخ و التجربة يدلان على أن للكثير من الحيوانات مجموعة من المعلومات الغريزية تعلم منها البشر على طول التاريخ، مكملا بذلك معلوماته ومعارفه، وحتى بعض الكتب الطبية تذكر ان الانسان مدين في جزء من معلوماتة الطبية للحيوانات!
يا ويلتي:
ثم يشيرالقران الكريم الى ان قابيل استاء من غفلته وجهله، فاخذ يؤنب نفسه كيف اصبح اضعف من الغراب فلا يستطيع دفن اخيه مثله، فتقول الآية: ﴿ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي﴾
وكانت العاقبة أن ندم قابيل على فعلته الشنيعة كما تقول الآية: ﴿ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [
فهل كان ندمه على جريمته، خوفا من افتضاح أمره أمام أبويه؟ أو ربما أخوته الآخرين الذين كانوا سيلومونه على فعلته؟ أم أن ندمه كان إشفاقا على نفسه، لأنه حمل جسد أخيه القتيل لفترة دون أن يعلم ماذا يفعل به أو كيف يدفنه؟ أم كان سبب الندم هو ما يشعر به الإنسان عادة- من قلق واستياء بعد ارتكاب كل عمل قبيح؟
مهما كانت أسباب الندم ودوافعه لدى “قابيل” فذلك لا يعني إنه تاب من فعلته وجريمته التي ارتكبها، فالتوبة معناها أن لا يعاود الإنسان المذنب تكرار الذنب، خوفا من الله واستقباحا للذنب، ولم يشر القرآن الكريم إلى صدور مثل هذه التوبة عن “قابيل”، وقد تكون الآية التالية إشارة إلى عدم صدور التوبة عنه.
ورد في حديث عن النبي (ص) قوله:”لا تقتل نفسا ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل”.
مما لا ريب فيه أن قصة ولدي آدم (ع) قصة حقيقية، يثبتها ظاهر الآيات القرآنية الأخيرة والروايات الإسلامية، كما أن عبارة “بالحق” الواردة في هذه القصة القرآنية تعتبر شاهدا على هذا الأمر، وعلى هذا الأساس فإن الأقوال التي افترضت لهذه القصة طابعا رمزيا من قبيل التشبيه أو الكناية أو القصة المفترضة لا أساس لها مطلقا.
ولا مانع من أن تكون هذه القصة الحقيقية مثالا من الصراع الدائم الذي يطغى على المجتمعات البشرية، حيث يقف في أحد جانبيه أناس جبلوا على الطهارة والصفاء والإيمان والعمل الصالح المقبول عند الله، وفي الجانب الآخر يقف أفراد تدنسوا بالانحراف وجبلوا على الحقد والحسد والضغينة والبغضاء والعمل الشرير.
وكم هو العدد الكبير من أولئك الأبرار الأخيار الذين ذاقوا حلاوة الشهادة على أيدي هؤلاء الأشرار الذين سيدركون ؟ في النهاية؟ فظاعة الأعمال الآثمة التي ارتكبوها، وسيسعون إلى إخفائها والتستر عليها، فتظهر لهم في مثل هذه اللحظات آمالهم السوداء الشبيهة بالغراب فتحثهم تدفعهم إلى إخفاء جرائمهم، لكنهم سوف لا يجنون في النهاية غير الخيبة والخسران.
المصدر:التفسير الأمثل