إنّ لله تعالى قضاءً وقدرًا حتميَين في كلّ شيء لا سبيل للإنسان أن يطلب من الله في الدعاء أن يغيّرهما، وهو الإرادة الإلهيّة الحتميّة، فما موقع الدعاء من هذا القضاء والقدر الحتميَين؟
وهل يمكن أن يغيّر الدعاء أمرًا قد تعلّقت به مشيئة الله الحتميّة، وعلم الله تعالى بذلك؟
فما جدوى الدعاء إذن إذا كان الدعاء لا يغيّر من قضاء الله وقدره الحتميَّين؟
وإذا كان للدعاء أثرٌ ودور في تغيير القضاء والقدر الإلهي، فكيف يكون ذلك؟
لا بُدّ قبل الإجابة على هذا السؤال من الدخول في مسألة القضاء والقدر والبداء… وإذا كان الدخول في هذه المسألة يخرجنا من أفق الدعاء إلى أفق الفلسفة، فإنّنا سوف نحاول أن نبتعد عن التعقيدات العلميّة لهذه المسألة، ونحاول أن ندخلها برفق واختصار بقدر ما يتعلق بالإجابة عن هذا السؤال.
قانون العليّة في التاريخ والكون.
يجري قانون العلية في حركة التاريخ والمجتمع والكون بصورة حتميّة وعامّة من دون استثناء.
سلطان الإرادة الإلهيّة على المجتمع والتاريخ والكون.
يجري حكم الله تعالى على المجتمع والتاريخ والكون بشكل كامل، وهو القاهر فوق كلّ شيء.
﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾([1]).
﴿إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُريدُ﴾([2]).
﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُريد﴾([3]).
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾([4]).
﴿وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِه مَنْ يَشاءُ﴾([5]).
﴿يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾([6]).
﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾([7]).
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾([8]).
﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ﴾ ([9]).
وهذه الآيات وأمثالها في القرآن كثيرة، وهي صريحة في أنَّ لله تعالى السلطان المطلق على الكون، لا يحدّه شيء، ولا يعجزه شيء، ولا يمنعه شيء. فهو قادر على كلّ شيء، يفعل ما يشاء، فعّال لما يريد، لا يسأل عن شيء وهم يُسألون، ولا يُعجزه شيء. وقد كان من رأي اليهود أنَّ إرادة الله تعالى محكومة لنظام العلّيّة العامّ الذي يحكم الكون والتاريخ، وليس لله تعالى – في رأي اليهود – سلطان على الكون والتاريخ بعد أن خلقهما. يقول القرآن عن ذلك: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾([10]). وليس في شيء مما قلنا شكّ، والقرآن صريح في كلّ ذلك، وواضح في شجب اليهود فيما يقولون.
علاقة الإرادة الإلهيَّة بقانون العلّيَّة.
وفي ضوء هذا السلطان الذي يقرّره القرآن للإرادة الإلهيّة في الكون والتاريخ والمجتمع من الطبيعي أن نتساءل عن علاقة الإرادة الإلهيّة بقانون العلّيّة. هل هي التعطيل؟ يعني أنّ الإرادة الإلهيّة تعطّل قانون العلّيّة كلما أراد الله تعالى ذلك. والجواب عن ذلك بالسلب من دون تردّد. فإنّ الله تعالى هو خالق العلّة، وليس غيره سبحانه، وخلق العلّة يساوي خلق العلّيّة بالضرورة، فإذا خلق النار خلق الحرارة كذلك وخلق النار من دون الحرارة، مثل خلق الزوج من دون الزوجيّة([11]) فلا يمكن أن توجد النار من دون أن تكون علّة للحرارة إلّا أن يقلبها إلى شيء آخر غير النار ويشبه النار، فليس من سبيل إذن إلى القول بأنّ سلطان الإرادة الإلهيّة على الكون والتاريخ بمعنى تعطيل قانون العلّيّة. فما هي العلاقة إذن بين الإرادة الإلهيّة وقانون العلّيّة؟
حاكميّة الإرادة الإلهيَّة على قانون العلّيَّة بنفس القانون.
يوضح القرآن الكريم هذه العلاقة في مواضع كثيرة، ويحدّدها بأنّ لله تعالى الحاكميّة المطلقة، والسلطان المطلق على هذا القانون بهذا القانون من دون تعطيل وإلغاء له، فلا يعطّل القرآن إرادة الله كما يفعل اليهود، ولا يعطّل نظام العلّيّة كما يفعل بعض الأشاعرة، وإنّما يقرّر حاكميّة الله تعالى على الكون بقانون العلّيّة نفسه، فإذا أراد أن يُنعم على قوم أرسل الرياح بشرًا بين يدَي رحمته، ﴿وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾([12]). ﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾([13]). ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾([14]).
فهو سبحانه ينزل من السماء ماءً بإرسال الرياح اللواقح، وإذا أراد أن يبشِّر قومًا برحمته أرسل عليهم الرياح بُشرًا بين يدي رحمته لتُثير السحاب، وينزل عليهم الأمطار من السماء لتخصب أرضهم بما أودع الله فيها من الرحمة. فينعم الله على من يريد أن ينعم عليهم أسباب هذه النعمة ،كما أنّه تعالى إذا أراد أن ينتقم من أمّة لسوء عملها انتقم منهم بأسباب العذاب، يقول تعالى في تنبيه آل فرعون: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾([15]).
فتتمّ عقوبة آل فرعون وتنبيههم بالجدب والقحط، والسنون جمع سنة؛ وهي بمعنى الجدب والقحط. فإذا أراد الله أن ينعم على قوم أنعم عليهم بأسباب النعمة ومنها الرياح والسحاب، وإذا أراد أن يعذّب قومًا عذّبهم بأسباب العذاب، ومن ذلك الجدب والقحط، وقلة نزول الأمطار.
قانون التسبيب.
وهذا هو قانون التسبيب وهو أن يتَّخذ الله تعالى إلى ما يشاء وما يريد الأَسباب التي تحقّق مشيئة الله فيما يشاء. وفي القرآن شواهد على ذلك، يقول تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾([16]).
والآية الكريمة واضحة في المعنى الذي نقول، فإن الله تعالى يريد هداية قوم وظلال قوم (بسبب من أعمالهم)، فإذا أراد هداية قوم اتّخذ لذلك السبب الذي يحقّق ما يريده تعالى فشرح صدرهم للإسلام، وإذا أراد ضلال قوم اتخذ من الأسباب ما يحقّق ما يريده تعالى، فجعل صدورهم ضيقة حرجة. ويقول تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾([17]).
وإذا أراد الله تعالى هلاك مجتمع (بسبب من أعمالهم) اتخذ لذلك السبب الذي يؤدّي إلى فسادهم، فأترفهم، فاستدرج الترف المترفين منهم إلى الفسق فحقّ عليهم العذاب. ويقول تعالى:
﴿وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾([18]).
لمّا أراد الله تعالى للمسلمين الذين وقفوا مع رسول الله (ص) أن يحقّ بهم الحقّ ويقطع دابر الكافرين، اتّخذ لهم طريق ذات الشوكة سببًا لذلك. وكما يجعل الله طريق ذات الشوكة سببًا لتكامل المسلمين وقيمومتهم على الناس وإمامتهم لهم على وجه الأرض، كذلك يجعل أموالهم وأولادهم سببًا لعذابهم وهلاكهم. يقول تعالى: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾([19]).
فيجعل الله تعالى من أموالهم وأولادهم سببًا لعذابهم وهلاكهم.
قانون التوفيق.
قانون التوفيق قريبٌ من قانون التسبيب؛ وهو أن يجعل الله تعالى عبده في مجرى أسباب الخير، فإذا أراد الله بمريض الشفاء دلّهُ على الطبيب الذي يشخص علّته، ودلّهُ على الدواء الذي يعالج مرضه. وإذا أراد الله بعبد خيرًا أخذ بيده إلى أسباب الهداية والخير. وإذا أراد الله لِعبده الرزق أخذ بيده إلى أسباب الرزق، وإذا أراد خلاف ذلك حجبه عن أسباب الرزق.
السلطان المطلق لإرادة الله تعالى في الكون.
وكلّ ذلك بيد الله تعالى وخاضع لحكمه وسلطانه ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ ([20]). ﴿إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِه﴾([21]). ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾([22]). ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾([23]). ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾([24]). ﴿إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُريدُ﴾([25]). وهو معنى هيمنة الله تعالى على الكون ﴿الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ﴾([26]).
في العلاقة بين إرادة الله وقانون العلّيّة.
والقول الفصل في العلاقة بين إرادة الله وقانون العلّيّة أنّ قانون العلّيّة نافذ في الكون نفوذًا حتميًّا وعامًّا. غير أنّ هذا القانون محكوم لمشيئة الله تعالى وليس حاكمًا، وإرادة الله تعالى حاكمة عليه. وليس معنى حاكميّة إرادة الله إلغاء هذا القانون وتعطيله، وكيف يمكن ذلك وهو من خلق الله تعالى كما أسلفنا. وليس قانون العلّيّة ندًّا لله تعالى ومنافسًا لسلطانه المطلق، ولكن الله تعالى يمحو من هذه الأسباب ما يشاء، ويثبت منها ما يشاء، ويتصرّف في هذا الكون كما يشاء، فيعزّ من يشاء، ويذلّ من يشاء بأسباب العزّ والذلّ.
ومن أجل ذلك فليس بوسع الإنسان أن يقرأ مستقبل الكون والتاريخ من ناحية الأسباب والعلل، لأنّ مشيئة الله تتدخّل في الأمر، فتغير من هذه الأسباب والعلل كما يريد الله. فقد يقاتل جيش قويّ جيشًا ضعيفًا، فإذا أراد أحدنا أن يقرأ مستقبل الصراع بين هذَين الجيشَين يتكهّن للجيش القويّ بالنصر، وللجيش الضعيف بالهزيمة، غير أنّ الله تعالى إذا أراد أن ينصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة هيّأ لذلك أسبابًا لم تكن بالحسبان، فأُلقي في قلوب الفئة الكثيرة الرعب، وألقى في قلوب الفئة القليلة القوّة والعزم، وسدّد فعل هذه القلّة، ولم يسدّد فعل الفئة الكثيرة، وأوقعها في أخطاء عسكريّة، وسدّد الفئة القليلة ووفّقها، وأجرى الأمور لما يخدمها؛ فتنتصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة إذا شاء الله.
ولا تقرّر الكثرة والقلّة وحدها مصير المعركة، كما يظنّ أولئك الذين لا يؤمنون بالله، وليس معنى ذلك أنّ الكثرة ليست من أسباب النصر، والقلّة ليست من أسباب الهزيمة، وإنّما نقول: إنّ للنصر أسبابًا أخرى، وللهزيمة أيضًا أسبابًا أخرى، والله تعالى إذا أراد للفئة القليلة النصر هيّأ لها أسباب النصر، وهي بيده، وإذا أراد للفئة الكثيرة الهزيمة هيّأ لذلك أسبابها وهي بيده: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾([27]).
البداء في التكوين.
وهذا هو معنى البداء في التكوين: تغيير مجرى الأحداث في الكون والتاريخ بما يريد الله تعالى، وكم من مرّة وصلت البشرية إلى حافّة السقوط لو كان قانون العلّيّة هو الحاكم على حياة الناس، إلّا أن المشيئة الإلهيّة تتدخّل في اللحظة المناسبة وتنقذ البشرية من السقوط… على خلاف ما تقتضيه حركة قانون العلّيّة. وليس معنى ذلك إلغاء هذا القانون وتعطيله، وإنّما التحكّم فيه من جانب الله عزّ شأنه بهذا القانون نفسه، وهذا التحكّم بنتائجه يجري على خلاف ما يفهمه ويقرؤه الناس من تسلسل الأسباب والمسبّبات والعلل والمعلولات. وهذا التحكّم الإلهيّ في قانون العلّيّة الذي يفاجئ الناس، ويضلّل حساباتهم هو البداء الذي وردت فيه روايات كثيرة من طرف أهل البيت (ع).
وبالبداء يقع التغيير في الكون والتاريخ والمجتمع، فيحدث ما لم يكن بالحسبان، وينتصر من لم يتوقّع الناس له أن ينتصر، وينهزم من لم يتوقّع الناس له أن ينهزم، ويملك الضعيف وتذلّ الملوك.
المحو والإثبات.
والبداء بهذا المعنى هو المحو والإثبات الذي ورد في كتاب الله تعالى: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾([28]). وأمّ الكتاب هو علم الله تعالى، والمعبَّر عنه في ألْسِنة الروايات باللوح المحفوظ، ولا يجري في ذلك محو ولا تغيير، ولا يعلم الله تعالى شيئًا بعدَ جهل. وقد روى الصدوق في إكمال الدين عن أبي بصير وسماعة عن أبي عبد الله الصادق (ع): “من زعم أنّ الله عزّ وجلّ يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرَؤوا منه”([29]).
وإنّما يجري المحو في كتاب التكوين، وليس في أمّ الكتاب الذي هو علم الله تعالى.
فإنّ علم الله تعالى ثابت لا يتبدّل، والتغيير والتبديل يجري في الكون والمجتمع والتاريخ بالأسباب التي يتّخذها الله تعالى لذلك.
روى العياشي عن ابن سنان عن أبي عبد الله (ع) أنّه قال: “إِنَّ الله يقدِّم ما يشاء ويؤخِّر ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، وعنده أمّ الكتاب. وقال فكلّ أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه ليس شيء يبدو له إلّا وقد كان في علمه، إن الله لا يبدو له من جهل”([30]).
وعن عمّار بن موسى عن أبي عبد الله (ع): “سُئل عن قول الله يمحو الله، قال: إِنّ ذلك الكتاب كتاب يمحو الله ما يشاء، ويثبت، فمن ذلك يَردُّ الدعاء القضاء، وذلك الدعاء مكتوب عليه الذي يُردُّ به القضاء، حتّى إذا صار إلى أمّ الكتاب لم يغن الدعاء فيه شيئًا”([31]).
فَيُثبت الله تعالى إذن ما يشاء من النظام الكونيّ الذي يجري بأمره بموجب قانون العلّيّة، ويمحو ما يشاء، فقد يستوجب مرض معيَّن أن يموت صاحبه بالأسباب الطبيعيّة، فيثبت الله تعالى ذلك فتجري الأسباب بما تؤدّي إليه بإذنه تعالى وأمره، وقد يمحو الله ذلك إذا شاء، فيسبّب الله له الشفاء بأسبابه، وليس بتعطيل الأسباب، فيجري المحو في التكوين. أمّا في أُمّ الكتاب فلا يجري محوٌ ولا تغيير، ولا يعلم الله تعالى شيئًا بعد جهل. وهذا المحو يجري في كتاب التكوين لنظام الأسباب والمسبّبات بموجب الحكمة والرحمة الإلهيّة، فإذا اقتضت حكمته أو رحمته تعالى تغيير مجرى الأحداث في الكون أو المجتمع هيّأ الله تعالى لذلك أسبابه، ومحى ما كان يجري في الكون والمجتمع، لولا مشيئة الله تعالى بموجب نظام الأسباب والمسبّبات. وهذا النظام خاضع لأمر الله تعالى في حالتَي المحو والإثبات، وسلطان الله تعالى نافذ عليه، فإذا أثبته الله جرى بإذنه وأمره، وإذا غيّره الله ومحاه تبدّل بحكمه وسلطانه.
مردود الإيمان بـ”البداء”.
والإيمان بالبداء يأتي بعد الإيمان بالتوحيد في الأهمّيّة؛ فإنّ القول بنفي البداء؛ بمعنى عزل إرادة الله تعالى عن تدبير الكون والهيمنة على حركة الكون والمجتمع، وتحكيم نظام العلّيّة والسببيّة على إرادة الله تعالى كما يقول اليهود: ﴿يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ﴾([32]).
والقول الحقّ الذي يقرّره القرآن: ﴿بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ﴾([33])، ولا يحدّ شيٌ من سلطان الله تعالى وبسط يده في الكون والمجتمع. وهذا هو المردود الأول في عقيدة الإنسان المسلم بالله تعالى، والدور الثاني للبداء في علاقة الإنسان بالله. فإنّ الإيمان بأنّ يد الله تعالى مبسوطة في كلّ حال، ولا يحجزه قانون العلّيّة عن التغيير والتبديل بما يشاء في شؤون الكون والفرد والمجتمع يلجأ العبد إلى الله تعالى في حاجاته وشؤونه، وأكثر ما يجذب الإنسان إلى الله ويشدّه به تعالى الدعاء في الحاجات والمهمّات والملمّات. فإذا كان الإنسان لا يرى سبيلًا إلى تغيير قضاء الله تعالى وقدره، ولا يرى في الدعاء جدوى ولا نفعًا في تغيير مجرى الأحداث لم يلجأ الإنسان إلى الله تعالى في حاجة أو مهمّة. وإنّما يلجأ الناس إلى الله لأنّهم يعتقدون أنّ لله تعالى قضاءين، قضاءً حتمًا كتبه الله تعالى في أمّ الكتاب لا سبيل إلى تغييره وتبديله، وقضاءً معلّقًا يجري فيه التغيير والتبديل إذا شاء الله فيلجأ الناس إلى الله تعالى في الإجابة لحاجاتهم ودعواتهم.
الدعاء والبداء.
والأمور التي تؤدّي إلى تدخّل الإرادة الإلهيّة في تغيير مجرى الأسباب والأحداث كثيرة منها الإيمان والتقوى يقول تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾، ومنها الشكر: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾.
ومنها الاستغفار: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾([34]).
ومنهما الدعاء والنداء: ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾([35]). ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾([36]).
﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ ([37]).
إذن، فإنّ الله تعالى يحكم النظام الكونيّ كلّه بصورة مطلقة، وليس من شي في الكون يحدّ من سلطانه ويعجزه، ويجري هذا السلطان بالأسباب نفسها، وليس بتعطيل نظام الأسباب والمسبّبات ويمحو الله ما يشاء من هذا النظام بسلطانه وحكمه وأمره، ويثبت ما يشاء بإذنه. ويجري هذا المحو والإثبات في كتاب التكوين فقط، وليس في أمّ الكتاب، وإذا محى الله تعالى شيئًا في التكوين فبحكمته ورحمته، وهذا المحو هو البداء الذي وردت فيه روايات كثيرة من أهل البيت (ع)، والله تعالى يجري البداء بأسباب كثيرة منها الاستغفار، ومنها التقوى والإيمان والشكر ومن أعظمها الدعاء. والدعاء من أهم موجبات البداء يقول تعالى: ﴿ادْعُو
([1]) سورة شورى، الآية 49.
([2]) سورة الحج، الآية 14.
([3]) سورة هود، الآية 107.
([4]) سورة البقرة، الآية 20.
([5]) سورة البقرة، الآية 105.
([6]) سورة آل عمران، الآية 37.
([7]) سورة البقرة، الآية 247.
([8]) سورة آل عمران، الآية 26.
([9]) سورة النساء، الآية 133.
([10]) سورة المائدة، الآية 64.
([11]) مع فارق يسير وهو أن الأول من لوازم الوجود والثاني من لوازم الماهية.
([12]) سورة الفرقان، الآية 48.
([13]) سورة فاطر، الآية 9.
([14]) سورة الحجر، الآية 22.
([15]) سورة الأعراف، الآية 130.
([16]) سورة الأنعام، الآية 125.
([17]) سورة الإسراء، الآية 16.
([18]) سورة الأنفال، الآية 7.
([19]) سورة التوبة، الآية 55.
([20]) سورة فاطر، الآية 2.
([21]) سورة الطلاق، الآية 3.
([22]) سورة آل عمران، الآية 160.
([23]) سورة الرعد، الآية 11.
([24]) سورة هود، الآية 107.
([25]) سورة الحج، الآية 14.
([26]) سورة الحشر، الآية 22.
([27]) سورة البقرة، الآية 249.
([28]) سورة الرعد، الآية 39.
([29]) العلامة المجلسي، بحار الأنوار، الجزء 4، الصفحة 111.
([30]) بحار الأنوار، مصدر سابق، الجزء 4، الصفحة 121.
([31]) المصدر نفسه.
([32]) سورة المائدة، الآية 65.
([33]) سورة المائدة، الآية 64.
([34]) سورة الأنفال، الآية 33.
([35]) سورة الأنبياء، الآية 76.
([36]) سورة الأنبياء، الآية 84.
([37]) سورة الأنبياء، الآية 88.