إنّ المقامات المعنويّة والروحانيّة لهذه الوجودات المقدّسة أعلى حقّاً من مستويات إدراكنا العقلانيّ، ناهيك عن أن نستطيع وصفها بألسنتنا القاصرة. لكنّ حياة هؤلاء العظماء ماثلة أمام أعيننا وأمام أنظار التاريخ كدروس عمليّة خالدة لا تقبل الإنكار؛ سياساتهم وتدابيرهم وسيرهم. لذلك، عندما نتطرّق إليها فهذا لا يعني أنّها أهمّ وأعظم جوانب حياة هؤلاء العظماء، بل لأنّ جانب القرب إلى الله وتلك المعرفة والمحبّة المتموّجة في تلك القلوب الفذّة لها وضعها الخاصّ بعيداً عن تناولنا، فإنّنا نحاول أن نستلهم من الجوانب العمليّة في مبادئهم الشريفة بحسب إمكاننا.
من هنا، نذكر نقطة حول الإمام الهمام وعالِم آل محمّد سيّدنا عليّ بن موسى الرضا (عليه آلاف التحية والثناء).
•مدّة قصيرة وتأثيرات عظيمة
لقد كان العمر المبارك للإمام الرضا عليه السلام خمسة وخمسين عاماً تقريباً (من سنة 148هـ وهي سنة استشهاد الإمام الصادق عليه السلام إلى سنة 203هـ). وحياة هذا الإنسان الكبير كلّها بكلّ ما لها من عظمة، وعمق، وأبعاد متنوّعة يمكن ذكرها وتصويرها، كانت في هذه المدّة القصيرة نسبيّاً من عمره الشريف. ومن الأعوام الخمسة وخمسين هذه، كان هناك نحو تسعة عشر عاماً فترة إمامته عليه السلام. ولكن لو لاحظنا هذه المدّة القصيرة نفسها، لوجدنا أنّ التأثيرات التي تركتها على واقع العالم الإسلاميّ، وعلى نشر وتعميق المعنى الحقيقيّ للإسلام، والانشداد إلى أهل البيت عليهم السلام، والتعرّف على مدرسة هؤلاء الأجلّاء، تمثّل قصّة عجيبة وبحراً عميقاً.
حين تولّى الإمام الرضا عليه السلام الإمامة، كان أصدقاؤه، والمقرّبون إليه، ومحبّوه يقولون: ما الذي يستطيع عليّ بن موسى الرضا أن يفعله في هذه الأجواء؟ والأجواء المقصودة هي شدّة القمع والإرهاب الهارونيّ الذي جاء في الروايات عنه: “وسيف هارون يقطر دماً”(1). وكيف سيتمكّن من مواصلة جهاد أئمّة الشيعة، وحمل هذه المسؤوليّة العظيمة على عاتقه؟ هذا كان في بداية إمامة عليّ بن موسى الرضا عليه السلام. بعد هذه الأعوام التسعة عشر تقريباً، والتي انتهت باستشهاده وانتهاء فترة إمامته، نرى أنّ أفكار ولاية أهل البيت عليهم السلام والارتباط بآل الرسول قد انتشرت في العالم الإسلاميّ، إلى درجة عجزت أجهزة بني العبّاس الظالمة المستبدّة عن مواجهتها.. هذا ما قام به عليّ بن موسى الرضا عليه السلام.
•أرى فيأهم في غيرهم
ربّما سمعتم أنّ دعبلاً جاء إلى “مرو”، إلى خراسان، وأنشد تلك الأشعار المعروفة في مدح الإمام الرضا عليه السلام، ونال جائزة عليها، ولنفترض أنّه بقي أيّاماً في “مرو” وسائر مدن خراسان، ثمّ توجّه نحو بغداد والكوفة والأماكن التي كان يريد الذهاب إليها. وفي الطريق، هجم قطّاع الطرق على القافلة التي فيها دعبل ونهبوها، وكان أهل القافلة جلوساً يتفرّجون على أموالهم وهي تُنهب، وكان رئيس قطّاع الطرق جالساً على مرتفع أو صخرة يتفرّج متبختراً على منظر هؤلاء السجناء والأسرى من القافلة، وأموالهم التي تُنهب وتُجمع على يد رجاله. سمع دعبل أنّ رئيس قطّاع الطرق يترنّم ببعض الكلام والأبيات، فأصغى إليه فوجده يترنّم بأبياته هو، ويقرأ بيتاً من القصيدة التي أنشدها قبل نحو شهر أو شهر ونصف على سبيل الافتراض:
أرى فيأهم في غيرهم متقسّماً وأيديهم من فيئهم صفرات
فرح دعبل ونهض وقال: لمن هذا البيت الذي تقرأه؟ فقال: إنّه لدعبل الخزاعيّ، فقال دعبل: وأنا هو دعبل الخزاعيّ! حين رأى رئيس قطّاع الطرق أنّ هذا الذي أمامه هو دعبل الخزاعيّ نهض واحتضنه وقبّله، وقال: ببركة وجود هذا الشخص في هذه القافلة نعيد لكم الأموال كلّها، فأعادوا لأهل القافلة أموالهم وممتلكاتهم، وأبدوا الاحترام لهم وتركوهم يسيرون في حال سبيلهم.
•انتشار مدرسة أهل البيت عليهم السلام
هذه حادثة صغيرة في التاريخ، لكن لها معنى كبير. قصيدة تُنشد في مدح عليّ بن موسى الرضا عليه السلام في “مرو”، وبعد نحو شهر أو شهر ونصف أو أكثر أو أقلّ، نجدها تُقرأ محفوظةً في الريّ أو العراق من قِبَل قاطع طريق. ما معنى هذا؟ معناه أنّ الأرضيّة كانت مهيّأة لنشر مدرسة وأفكار أهل البيت عليهم السلام والاسم المبارك للإمام الرضا عليه السلام، إلى درجة أنّ هذه القصيدة -وقد كان الشعر يومذاك من أكثر وسائل الإعلام تأثيراً ونفاذاً- تناقلتها الأيدي خلال مدّة قصيرة لتصل إلى قاطع طريق يجول في الصحراء. هذا مؤشّر على حركة عظيمة تفاعلت في زمن إمامة الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام لترويج وإشاعة مدرسة أهل البيت عليهم السلام، فانتشرت مودّتهم وعمّت، وتغلغل وجودهم في المجتمع الإسلاميّ إلى أعماق قلوب الناس. حين ترون أنّ الكثير من أبناء الأئمّة توجّهوا إلى هذه البلاد، فما عدا الجانب المأساويّ للقضيّة واستشهادهم في الطريق، هناك جانب إيجابيّ للقضيّة زاخر بالمعاني، يتمثّل بدعوة الناس وطلباتهم، والأرضيّة الشعبيّة لتقبّل الناس أهل البيت عليهم السلام وانشدادهم إليهم. وتعلمون أنّنا حين نقول “أهل البيت” نعني هذه المدرسة والمعاني التي يطرحها أهل البيت عن الإسلام؛ أي أنّه مشروع ثقافيّ ومعنويّ عميق، وعمل عقيديّ كبير.
•إخماد صوت الحقّ
هذا هو تحرّك الإمام الرضا عليه السلام، إلى أن شعر المأمون أخيراً، أنّه مضطرّ إلى قتل عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، الذي جاء به من المدينة وقرّبه إليه لنواياه ومقاصده الخاصّة، ولم يكن يقصد قتله، لكنّه غيّر تدبيره، وجرى القضاء، والإرادة، والتدبير الإلهيّ على أن يُدفن بضعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المنطقة البعيدة عن المدينة، وأن يُقتل على أيدي أعداء أهل البيت عليهم السلام.
هكذا ينبغي القيام بالأعمال التي تهدف إلى الغايات السامية. يجب النظر إلى المدى البعيد بهذه المحفّزات، والنوايا، والآمال.
(*) كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله في لقائه قادة حرس الثورة الإسلامية بمناسبة ولادة الإمام الرضا عليه السلام – 17/09/2013م.
1. مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج3، ص451.