لقد وجّه القرآن الكريم خطابه إلى البشرية كلّها في هذه الآية الشريفة: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة: 128). آلام البشر، والشدائد المُلمّة بحياة الناس وبالمجتمعات البشرية، إنّما هي عبءٌ ثقيلٌ على نفس النبيّ الأعظم، فإنّه ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾، ومتشوّق إلى هدايتكم وسعادتكم؛ فالبعثة جاءت لجميع الناس. واللافت مواساة القرآن للنبيّ الأكرم في تتمّة هذه الآية نفسها: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ (التوبة: 129). يا رسول الله، توكَّلْ على الله الواحد الأحد، فالأمور كلّها في قبضته، والسنن الإلهيّة مسخَّرة لخدمة هذه الحركة.
*الأنبياء: العودة إلى الفطرة
إنّ غالبية الآلام والشدائد التي تعاني منها البشريّة على امتداد التاريخ، ما زالت مستمرّة إلى يومنا هذا بأشكال مختلفة، كعبوديّة غير الله، وانتشار الظلم والجور، والاختلاف الطبقيّ، ومصائب الضعفاء، وغطرسة المتسلّطين الأقوياء. هذه الآلام التي فرضها الجبابرة العتاة على البشر دوماً بدوافع فاسدة ومُفسدة، جاءت البعثة النبويّة لإزالتها والقضاء عليها، فكان يوم المبعث هو يوم الرجوع إلى الفطرة الإلهيّة، لأنّ كل هذه الشدائد والآلام والمحن والاضطرابات ترفضها الفطرة الإلهيّة المودعة في نفوس البشر. لقد فَطَر الله الناس على مناصرة الحقّ والعدل والجهاد في سبيل المظلومين. هذه هي الفطرة الإنسانيّة.
*مهمّة الأنبياء في نهج البلاغة
إنّ لأمير المؤمنين عليه السلام، في الغاية من بعثة الأنبياء، عبارةً وردت في كتاب نهج البلاغة الشريف، ينبغي التدبّر فيها كثيراً، وهي قوله عليه السلام: “لِيَستَأدُوهُم ميثاقَ فِطرَتِه”(1)؛ أي أنّ الأنبياء يدعون الناس إلى العمل بميثاق الفطرة الذي أودع في باطن البشر، والإقرار به، فإنّ الله سبحانه وتعالى قد طلب من البشر أن يكونوا أحراراً، وأن يعيشوا حياة ملؤها العدل والصلاح، وأن لا يعبدوا غير الله. “وَيُذَکِّروهُم مَنسِيَّ نِعمَتِه”؛ ذلك أنّنا نغفل عن نعمة الوجود، والصحة، والعقل، ونعمة الأخلاق الحسنة الذي أودعها الله في طبيعة الإنسان. ينسى البشر هذه النعم والأنبياء يُذكّرونهم بها. “وَيَحتَجّوا عَلَيهِم بِالتَّبليغ”، فيتمّون الحجّة على الناس، ويوصلون إلى مسامعهم كلمة الحقّ، ويكشفون لهم الحقيقة؛ فالتبيين والبيان أهمّ واجبات الأنبياء عليهم السلام.
أعداء الأنبياء يستغلّون حالات الجهل وكتمان الحقائق، ويتستّرون خلف ستار النفاق، أمّا الأنبياء عليهم السلام فيشقّون ستار الجهل والنفاق. “وَيُثيرُوا لَهُم دَفائِنَ العُقول”، فقد جاء الأنبياء ليدعوا الناس إلى التعقّل ويحثّوهم على التفكّر والتدبّر، “وَيُرُوهُم آياتِ المَقدِرَة”؛ أي أنهم يوجّهون عقول البشر نحو التوحيد وآيات الله، ويضعون أمام أنظارهم آيات قدرة الله. فإنّ العقل الذي لم يتّصل بالهداية لا يستطيع من دون هداية الأنبياء إدراك الحقيقة كما هي.
الأنبياء يأخذون بيد العقل الإنسانيّ ويرشدونه، ويقوم العقل، بما وهبه الله من قوة وطاقة، بطيّ طريق الحياة الشاق، وكشف الحقائق للإنسان. إنّ قوّة العقل والتفكّر مهمة جداً، ولكن بشرط اتّصالها بهداية الله وعونه.
*الجاهليّة في مواجهة العقل
لا ينبغي اعتبار الجاهلية أمراً مرتبطاً بحقبة تاريخيّة محدّدة ومعيّنة ليتسنّى لنا القول إنّ النبيّ آنذاك قد تصدّى للجاهلية ومضى ذلك اليوم، فإنّ الجاهلية لا تختص فقط بذلك اليوم، بل هي مستمرة.
إنّ الجاهليّة التي تقف في مواجهة بعثة الأنبياء لا تعني فقدان العلم، بل قد يصبّ العلم في خدمة الجاهليّة، كما هي الحال في أيامنا هذه؛ حيث تقدّم العلم البشريّ في العالم المعاصر، ولكنه مسخَّرٌ لخدمة تلك الجاهلية نفسها التي بُعث الأنبياء للقضاء عليها. الجاهليّة التي تقف في مواجهة العقل الذي تمّت هدايته من قِبل الله تعالى والأنبياء. فإنْ سادَ العقل حياةَ البشر، في ظلّ هداية الأنبياء، ستكون الحياة طيّبة سعيدة، وهذا ما يجب السعي لأجله. أمّا إذا لم يكن العقل البشريّ هو السائد، وكانت الشهوة والغضب والأهواء النفسانيّة هي الحاكمة، فستحترق البشريّة في موقدٍ مستعرٍ من التعاسة والشقاء؛ الأمر الذي شاهدناه على مدى التاريخ، وهذا ما نشاهده اليوم أيضاً.
بَعثة الأنبياء تواجه هذا التيّار الجاهليّ، ويمكن أن توجد في كلّ عصر وزمان، وعلى جميع الناس مسؤوليّات وواجبات تجاهها.
إنّ الاستعمار، وإذلال الشعوب، ونهْب ثرواتها الماليّة، وإفساد مواردها الإنسانية، كلّها من نتائج حاكميّة تلك الجاهليّة وسيطرتها. حين تحكم الجاهليّة تسحق العديد من شعوب العالم تحت وطأة نعال الاستعمار، ونهب ثرواتها، وإذلالها، وتخلّفها لسنوات متمادية. فقد تخلّف بعض الشعوب المستعمَرة لعشرات السنين، وبعضها الآخر لقرون.
*”الأمانة الإلهية لها صاحب”!
إنّ نُصرة الإسلام ونُصرة المسلمين في النهاية أمرٌ محتوم، لكن هناك واجبٌ في أعناقنا، ومن يعمل بواجبه يقع أجره على الله تعالى، ومن لم يعمل بواجبه ﴿فَسَوفَ يَأتِي اللهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَه﴾ (المائدة: 54). ولنعلم أنّ الأمانة الإلهية يقيّض الله لها دوماً مَن يحملها، وهذا الطريق سوف يستمرّ. نسأل الله أن يجعلنا من أولئك الذين لا يطرحون هذه الأمانة أرضاً على الإطلاق.
(*) كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقائه مسؤولي النظام الإسلامي وسفراء البلدان الإسلامية، في عيد المبعث النبوي الشريف، 05/05/2016.
1- نهج البلاغة، الخطبة الأولى.