تتكرّر مشاهد هتك الحرمة الإنسانيّة، وسببها الأساس أنَّ الإنسان عندما أمره الله عزَّ وجلَّ أن يُحصّن حرماته ومقدّساته، لم يلتزم بتحصينها؛ فلو التزم بذلك، وبنى كيانه ونظامه ووجوده على هذا الأساس، لما تمكّن حاكمٌ من ارتكاب جريمة.
• رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوّل الداعين إلى حماية المقدّسات
في بداية رسالته في مكّة، طلب رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم من المسلمين المؤمنين، الذين التزموا معه -وهم قلّة: خديجة، وعليّ، وفلان، وفلان- حفظَ المقدّسات الدينيّة؛ فقال لهم: “قِبلتكم القدس والمسجد الأقصى”. ثمّ عندما انتقل إلى المدينة المنوّرة، أراد الله تبارك وتعالى أن يقول لنبيّه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: لا يمكن أن تسلّم الرسالة، أو تحقّق نجاحاً، إلّا بعد أن تُحفظ الكعبة المشرّفة؛ وعليه، أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن تكون القِبلة هي الكعبة المشرّفة؛ فأصبح المسلم -على مستوى نظرة التقديس- مرتبطاً بالمسجد الأقصى والقدس الشريف، مضافاً إلى ارتباطه بالكعبة المشرفة.
وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوجّه الناس ويربّيهم ويدعوهم إلى احترام هذه المقدّسات، ويُلفِتهم إلى ضرورة تحمّل مسؤوليّاتهم تُجاهها. وهذا ما حصل؛ بقي المسلم يجاهد في سبيل الله، وهو يتطلّع إلى مكّة، حتّى حرّرها من المشركين، ثمّ بقي هدف الأمّة الإسلاميّة مُنصبّاً على تحرير القدس. هذه الرؤية بقيت مستمرّةً لفترة طويلة من الزمن؛ ففي أيّام صلاح الدين الأيوبيّ، اجتمعت الشعوب الإسلاميّة من أقصى بلاد المسلمين، تحت عنوان “تحرير القدس” و”يا لثارات القدس”! وقد تمكّنوا فعلاً من تحرير القدس.
• الإمام الخمينيّ قدس سره يتصدّى لهتك المقدّسات
لقد سار الإمام الخمينيّ قدس سره على نهج النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان تلميذاً مستفيداً من سيرته العطرة في مجالاتها كافّة؛ فأَوْلى مسألة المقدّسات والرموز الدينيّة عنايةً خاصّة؛ كي تصبح هي المسألة والقضيّة الأهمّ بنظرنا، كمسلمين، فكان له مواقف في هذا الشأن لا يزال صداها مستمرّاً حتّى وقتنا الحاضر. فبعد أن ربّى الإمام قدس سره شعبه المسلم في إيران، بدأ بتربية خاصّة على مستوى العالم الإسلاميّ أجمع؛ أراد أن يُربّي المسلمين في العالم كلِّه، على حفظ مقدّساتهم؛ كيف يُحفظ القرآن؟ كيف يُحفظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ كيف تُصبح هذه المقدّسات الأساسية أساساً في حياة المسلم؟ فلا يسمح بأن تُهتك حرمة مثل هذه المقدّسات. نذكر بعض المواقف:
1- رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشرف الأقداس: عندما أفتى الإمام قدس سره فتواه الشهيرة حول سلمان رشدي، أراد أن يُربّي العالم الإسلاميّ بأكمله؛ بمعنى: إذا كنتم تريدون أن تُحفظوا كمسلمين في العالم، ثمّة بوابة لحفظكم، وهي أن تتربّوا على حفظ مقدّساتكم؛ فعندما تحفظون هذه المقدّسات، تصبح لكم كرامة، ويصبح لكم موقعٌ بين الأمم، وتصبحون القوّة الثالثة، بل تصبحون، مستقبلاً، القوّة الوحيدة.
ماذا يُمثّل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالنسبة إلى الإسلام؟ يُمثّل قدس الأقداس، وأشرف المقدّسات؛ وإذ بهذا الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يُهان ويُشتم! فهل كان المطلوب من الجمهوريّة الإسلاميّة أن تسكت؟ ولا سيّما أنّ الأسلوب الذي اتّبعه هذا الكتاب، والذي خُطّط له، كان أسلوباً خطيراً.
وقد تبنّاه الكثير من الكُتّاب والمفكّرين، وحصلت دعوات ضخمة لقراءته في المجامع العامّة؛ من أجل إهانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -والعياذ بالله-. هذا قمّة في الهتك، وقمّة في عدم الاحترام!
الإمام قدس سره، وهو قائد هذه الأمة ومُربّيها، أراد أن يدفع المسلمين إلى تحمّل مسؤوليّاتهم تُجاه هذه القضيّة. وفعلاً، انتفضت الشعوب في العالم الإسلاميّ بأكمله، وعمّت المظاهرات في نيويورك، وباريس، ولندن، وغيرها من العواصم. وعلى الرغم من أنّ الحُكّام لم يستطيعوا اتّخاذ مواقف جديّة، إلّا أنّهم منعوا دخول هذا الكتاب إلى بلدانهم، كان هذا أضعف الإيمان. ما معنى هذا؟ معناه بداية تربية جديدة على تحمّل المسؤوليّات تُجاه المقدّسات الإسلاميّة، وتُجاه احترامها وصيانتها.
2- مكّة قِبلة المسلمين: عندما أقدم آل سعود على هتك حرمة بيت الله الحرام، وارتكاب مجزرة الحجيج في مكّة المكرّمة(1)، وجّه الإمام قدس سره أنظار المسلمين إلى مكّة والمدينة، وهذا التوجيه ليس توجيهاً منفصلاً عن الخطّة العامّة المدروسة التي خطّط لها الإمام قدس سره ومارسها، والتي أراد من خلالها توعية الشعوب المسلمة، أنّكم إذا كنتم -كمسلمين- تريدون أن تقوم لكم قائمة، فهذه مقدّساتكم، فكّروا كيف يجب أن تحترموها وتحفظوها، وكيف يجب أن تتحمّلوا مسؤوليّاتكم تُجاهها.
3- قدس الأقداس: اجتمعت مجموعة من اليهود الصهاينة من هنا وهناك، وبنت لنفسها قوّة أساسيّة في العالم، بسبب بعض المنطلقات العقائديّة التي انطلق منها هؤلاء شذّاذ الآفاق، واجتمعوا من أجلها في القدس التي جعلوها من مقدّساتهم فقط، وليس لأيّ دولة أخرى حقّ فيها. وعندما أرادوا أن يحفظوا قدسيّتها، شكّلوا قوّةً معادية شرسة لهذه الغاية! (إضافة إلى غايات أخرى جمعتهم في القدس). أمّا نحن، أكثر من مليار مسلم(2) على مستوى الديانات والجهات والذين نستطيع أن نكون أكبر فئة وأمّة في العالم.
من حيث العدد والامتداد الجغرافيّ والثروات والخيرات؛ فكلّ الثروات تتركّز في مناطقنا.
لكن ما جعلنا الأمّة الأضعف التي يُستخفّ بها هو أنّنا لم نحفظ أنفسنا، ولم نبنِ كياننا الجامع والوحدويّ.
فالطريق إلى بناء أنفسنا وأمّتنا وكياننا هو الارتباط الوثيق بهذه المقدّسات.
• حراك الأمّة بتحريك قضاياها
ما هي القضيّة التي يمكن أن تحرّك كلّ هؤلاء المسلمين في العالم، غير قضاياهم الدينيّة؟ فلو أنَّ الإمام الخمينيّ قدس سره أثار أيّ مسألة من المسائل، غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أو غير المقدّسات الإسلاميّة الأساسيّة، هل كان ليُحرّك من خلاله العالم الإسلاميّ بأكمله؟ هل ثمّة مسائل وقضايا تثير مشاعر الأمّة كلّها، وتُحرّك أفكارها وأحاسيسها؟ نعم، من خلال هذه المحرّكات العامّة، تستطيع أن تُحرّك الأمّة، حتّى تمارس هذه الأخيرة دورها الأساسيّ.
ولذلك، بدأ الإمام قدس سره يُحرّك هذه القضايا الكبيرة والأساسيّة على مستوى المسلمين جميعاً.
فلا يستطيع مسلم في العالم أن يقول: لا علاقة لي بها، ولا يستطيع المسلم العربيّ أو الفارسيّ أو التركيّ وغيره،
أن يتنصّل من مسؤوليّاته تُجاه القدس، وأيضاً تُجاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو تُجاه مكّة. إنّ قيام المظاهرات في تركيا، ودول أوروبا، وأميركا، وأفريقيا، وآسيا، نصرةً للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إثباتٌ لقضيّة: إذا أردت أن تُحرّك أمّة، يجب أن تحرّكها من خلال تحريك قضاياها الأساسيّة. وهذا ما فعله الإمام الخمينيّ قدس سره.
•أعظم مجتمع بشريّ
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو من بنى أوّل مجتمع إسلاميّ، والذي أصبح مجتمع دستور وقانون ونظام وكتاب؛ ونتيجة لذلك، أصبح كلُّ فردٍ في هذا المجتمع يعيش عقليّة هذا الدستور.
ويتحرّك في الحياة على أساسه؛ ولذلك أصبح هذا المجتمع -إلى حدٍّ ما- مرشّحاً حتّى لمعاقبة حكّامه ومحاكمتهم.
عندما يتربّى المجتمع المسلم على حرماتٍ ومقاييس ودساتير معيّنة، يصبح محصّناً من الاختراقات، مهما كانت كبيرة. ولو ظلَّ الحكّام بعد أهل البيت عليهم السلام، يوجّهون الناس، ويربّونهم على المقاييس والتحصينات الإسلاميّة، لأصبح لدينا أعظم مجتمع بشريّ، ولأصبحنا نجد المثل الأعلى على المستوى الإنسانيّ.
(*) من ندوة للسيّد عبّاس الموسويّ (رضوان الله عليه)، تاريخ 12/3/1989م.
1. مجزرة الحجّ عام 1987م.
2. يقدّر عدد المسلمين اليوم بداية العام 2022م نحو 1.90 مليار مسلم.