“من الواضح أنّ الإيمان بالله من نوع العلم ومن الكمالات المطلقة، وحيث إنّه من الكمالات فهو أصل الوجود، وأصل حقيقة النّور والظّهور، وما لا يكون من الإيمان وتوابعه، فهو خارج عن نطاق الكمالات النّفسيّة الإنسانيّة، وملحق بظلمات الأعدام والماهيّات”[1].
أساس صلاح الإنسان
و”اعلم أنّ الإيمان أيضًا من الكمالات الرّوحيّة، التي قلّما يدرك أحد حقيقتها النّوريّة، حتى أنّ المؤمنين لم يعرفوا شيئًا عن نورانيّة إيمانهم، والكرامات التي تنتظرهم لدى ساحة قدسه المتعالي، ما داموا في عالم الدّنيا، وظلام الطّبيعة”[2].
أساس كل صلاح
يقول الإمام قدس سره: “ولو أنّ الإيمان تغلغل في القلب، لصلُحت الأمور، لأنّ آثاره ـ الإيمان ـ تتسرّب إلى الظّاهر والباطن والسرّ والعلن”[3].
ولهذا، فلا يوجد باعث على التّوبة والإنابة مثل الإيمان.
فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: “الإيْمانُ لا يَضُرُّ مَعَهُ عَمَلٌ وَكذلِكَ الْكُفْرُ لا يَنْفَعُ مَعَه عَمَل” وهناك روايات أخرى بهذا المضمون.
وقد فسّر المحدّث الجليل المجلسي عليه الرّحمة، الضّرر المنفيّ: (ما يَصِير سَبَباً لِدُخول النّارِ أوِ الْخُلودِ فِيها).
وإذا كان المقصود من الضّرر المنفيّ دخول النار، فلا منافاة بين عدم الدّخول في النّار حسب هذه الروايات، وتحقّق أنواع أخرى من العذاب في عالم البرزخ والمواقف المختلفة في يوم القيامة.
ويظنّ الكاتب[4] بأنه يمكن تفسير هذه الأخبار، بأن الإيمان ينّور القلب قليلاً وفي درجة محدودة، لو اقترف الإنسان خطيئة أو ذنباً، عولج ببركة ذلك النور وملكة الإيمان الإثم وتلك الجريرة، بالتوبة والرجوع إلى الله. فإن صاحب الإيمان بالله واليوم الآخر، لا يسمح لنفسه أن يترك أعماله إلى يوم القيامة. فهذه الأخبار في الحقيقة تحفز الإنسان على التمسك بالإيمان، والمحافظة عليه”[5].
الغنى عن النّاس
“فما لم تكتب عبارة “لا إله إلا الله” بقلم العقل على لوح القلب الصافي لن يكون الإنسان مؤمنا بوحدانية الله.
وعندما ترد هذه العبارة النّورانيّة الإلهيّة على القلب، تصبح سلطة القلب لذات الحقّ تعالى، فلا يعرف الإنسان بعدها شخصًا آخر مؤثّرًا في مملكة الحقّ، ولا يتوقّع من شخصٍ آخر جاهًا ولا جلالًا، ولا يبحث عن المنزلة والشّهرة عند الآخرين”[6].
“إنّ مطلق الاعتماد على غير الحقّ سبحانه والالتفات إلى المخلوق يكون من جرّاء ضعف اليقين والإيمان”[7].
النّجاة من الدّنيا
أساس صلاح الإنسان
“إنّ خوف وكراهة المتوسّطين، للموت، أي الذين لا يؤمنون بعالم الآخرة، فلأنّ قلوبهم انشدّت إلى تعمير الدّنيا، وغفلت عن تعمير الآخرة، ولهذا لا يرغبون في الانتقال من مكانٍ فيه العمران والازدهار إلى مكانٍ فيه الدّمار والخراب…
وهذا أيضًا ناتج من نقصٍ في الإيمان والاطمئنان. وأمّا إذا كان الإيمان كاملًا، فلا يسمح الإنسان لنفسه أن يشتغل بأموره الدّنيويّة المنحطّة ويغفل عن بناء الآخرة”[8].
“إنّ الإنسان ما دام يشتغل بتعمير هذا العالم، ويكون قلبه متّجهاً نحو هذه النشأة، وما دام سكر الطّبيعة ـ عالم المادة ـ قد أعماه وأفقده وعيه، والشّهوة والغضب المخدّرتان قد خدّرتاه وسلبتا لُبّه،
يكون محجوبًا نهائيًّا عن صور أعماله وأخلاقه، وتكون آثار أعماله وأخلاقه مهجورة في ملكوت قلبه.
ولكن عندما تغشاه سكرات الموت وتواجهه صعابها وضغوطها، ويبتعد قليلًا عن هذه النّشأة، فإذا كان من أهل الإيمان واليقين، وكان قلبه متعلّقًا بهذه العوالم المادّيّة، اتّجه قلبه في نهاية المطاف من حياته إلى ذلك العالم، والسّائقون المعنويّون، وملائكة الله الموكّلون عليه، يسوقونه جميعًا إلى ذلك العالم، وبعد هذا السّوق وذاك الانصراف ينكشف له نموذج من عالم البرزخ، وتنفتح عليه من عالم الغيب كُوّةٌ ويتكشّف له حاله ومقامه قليلًا، كما نُقل عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنَّهُ قَالَ: “حَرَامٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ أن تَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيا حَتّى تَعْلَمَ أنَّهَا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ”…
فإن كان من أهل الإيمان والسّعادة، يستعدّ قلبه عند معاينة البرزخ لمشاهدة النّفحات اللطيفة اللُطفيّة والجمال
وتظهر فيه آثار تجلّيات اللطف والجمال، فيأخذ القلب في الحبّ للقاء الله، وتشتعل في قلبه جذوة الاشتياق إلى جمال المحبوب، إن كان من أهل الحسنى وحبّ الله والجاذبة الرّبوبيّة، ولا يعرف أحد إلاّ الله، مقدار اللّذات والكرامات الموجودة في هذا التجلّي والاشتياق!
وإن كان من أهل الإيمان والعمل الصالح، أغدقت عليه من كرامات الحقّ المتعالي بقدر إيمانه وأعماله، ويراها لدى الاحتضار، فيتوق إلى الموت ولقاء كرامات الحقّ، ويرتحل من هذا العالم مع البهجة والسّرور والرّوح والرّيحان، ولا تطيق الأعين المُلكيّة والذائقة المادّيّة، رؤية هذه الكرامات ومشاهدة هذه البهجة والفرح”[9].
الخلاص من تصرّف الشّيطان
أساس صلاح الإنسان
“الايمان حظّ القلب الذي يحصل من شدّة التّذكّر والتّفكّر والأنس والخلوة مع الحقّ.
فإنّ الشّيطان مع أنّ له العلم بالمبدأ والمعاد بنصّ القرآن محسوب في زُمرة الكفّار، فلو كان الإيمان عبارة عن هذا العلم البرهانيّ يلزم أن يكون الواجدون لهذا العلم بعيدين عن تصرّف الشّيطان ويتلألأ فيهم نور هداية القرآن
مع أنّنا نرى أنّ هذه الآثار لا تحصل بالإيمان البرهانيّ.
فإن أردنا أن نخرج من تصرّف الشّيطان ونقع تحت عوذة الحقّ لابدّ وأن نوصل الحقائق ّ إلى القلب بالارتياض القلبيّ الشّديد ودوام التّوجّه أو كثرته وشدّة المراودة والخلوة حتّى يصبح القلب إلهيًّا.
فإذا صار القلب إلهيًّا يخلو من تصرّف الشّيطان كما قال الله تعالى: ﴿اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ﴾[10]”[11].
الخلاص الأبدي
“معلومٌ أنّ من يؤمن بالله ويُصدِّق بيوم الجزاء ويعتقد بيوم القيامة، لا يقترف موبقة كبيرة، تفضحه في عوالم الغيب والشّهادة وفي عالم الدنيا والبرزخ والآخرة، وتقوده إلى شرّ المصائب، التي هي نار جهنم، وتخرجه عن ولاية الحق المتعالي وتدخله تحت ولاية الشيطان”[12].
وفي المقابل، فإنّ كلّ الشّقاءات والمصائب والنّقائص إنّما ترجع إلى عدم الإيمان أو نقصانه أو ضعفه أو تزلزله.
يقول الإمام قدس سره: “إنّ كلّ شقائنا هذا من وراء النّقص في الإيمان بيوم القيامة ومن عدم الاطمئنان بعالم الآخرة. فلو أنّنا آمنا بعالم الآخرة والحياة الأبديّة، عُشْر اطمئناننا بالحياة الدّنيويّة وعيشها، وعُشر إيماننا بحياة هذا العالم وبقائه، لتعلّقت قلوبنا بذلك العالم أكثر ولعشقناه، ولسعينا قليلًا في إصلاح الطّريق وترميمه.
ولكن المؤسف أنّ إيماننا بالآخرة قد نضب في القلب، وأنّ يقيننا متزلزل”[13].
و”إنّ مصدر جميع الخطايا والمعاصي التي تصدر من الإنسان، هو النّقص في اليقين والإيمان، وإنّ مراتب اليقين والإيمان مختلفة على مستوىً لا يمكن عدّها وبيانها.
وإنّ اليقين الكامل للأنبياء والاطمئنان التام الذي يحظون به، الحاصلان من المشاهدة الحضورية هو الذي يعصمهم من الآثام.
إن يقين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قد أبلغه إلى مستوى يقول “وَالله لَوْ أُعْطِيتُ الأقالِيمَ السَّبْعَةِ بِما تَحْتَ أفْلاكِها عَلى أنْ أَعْصَى الله في نَمْلَةٍ أسْلُبُها جَلْبُ شَعِيرةٍ ما فَعَلتُه”[14].
فــ “لا بدّ من إصلاح الينبوع، والعثور على الإيمان بالله، وبكلمات أنبيائه حتّى يتم إصلاح الأمور. إنّ كل تعاستنا من ضعف الإيمان ووهن اليقين”[15].
أساس صلاح الإنسان
دراسات أخلاقية – الأخلاق المحمودة، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
[1] الأربعون حديثًا، ص 558.
[2] (م.ن)، ص 582.
[3] (م.ن)، ص 340.
[4] أي الإمام الخميني قدس سره.
[5] الأربعون حديثًا، ص 604.
[6] الأربعون حديثًا، ص 58-59.
[7] (م.ن)، ص 361.
[8] (م.ن)، ص 390.
[9] الأربعون حديثًا، ص 490 – 492.
[10] سورة البقرة، الآية 257.
[11] معراج السالكين، ص 235.
[12] الأربعون حديثًا، ص 340.
[13] (م.ن)، ص 390.
[14] (م.ن)، ص 581.
[15] (م.ن)، ص 462.