الشهيد السيد عبد الحسين دستغيب(رضوان الله عليه)
لا يخفى على أيّ عاقل أنّ للإنسان بدناً ونفساً، وظاهراً وباطناً، وأعماله الحسنة والقبيحة، والتي هي على قسمين:
الأوّل: أعماله التي يؤدّيها بواسطة البدن، كالصلاة والصوم والحجّ والإنفاق، وشرب الخمر ولعب القمار والزنا.
والثاني: ما يكسبه الإنسان بقلبه ويعطيه مكاناً فيه، كالإيمان والحبّ والخوف والرجاء، والكفر والنفاق والبغض والكبر والرياء.
وكما أنّ على كلّ فرد معرفة الأعمال السيّئة، التي تؤدّى بواسطة البدن وهي مورد لنهي الله؛ من أجل اجتنابها، فكذلك عليه معرفة الأعمال السيّئة التي تُكتسب بالقلب، وهي مورد نهي الخالق عزّ وجلّ، واجتنابها مطلوبٌ أيضاً.
القرآن والذنوب القلبيّة
لقد حذّر الله المسلمين من الذنوب القلبيّة في مواضع عدّة من القرآن الكريم، من جملة ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ (البقرة: 225)؛ وفي هذه السورة يرد التعبير عن الذي يكتم الشهادة بإثم القلب(1). ويقول تعالى: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ﴾ (البقرة: 284)، وهذه إشارة إلى الكفر والنفاق والرياء.
وفي سورة النور يقول سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (النور: 19)؛ ففي هذه الآية نجد أنّ حبّ شيوع الفاحشة، وهو أمر قلبيّ، يعدّ إثماً عقابه العذاب.
إثم القلب أم مرض القلب
يُعدّ إثم القلب في مواضع عدّة من القرآن الكريم مرضاً له، ومن جملة ذلك قوله تعالى في سورة البقرة عن المنافقين: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً﴾ (البقرة: 10). عندما يكون القلب مطهّراً من أنواع العذاب والأمراض، فإنّه قلب سليم، وهو سبب سعادة الإنسان، وفي سورة الشعراء يقول تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الشعــــراء: 88 – 89)؛ أي إنّ الأمور الاعتباريّة الدنيويّة كالمال تنفع للحياة الدنيويّة فقط، أمّا الحياة بعد الموت، فلا ينفع فيها إلّا القلب السليم. ثمّ إنّ أحد أسماء الجنّة هو “دار السلام”؛ أي دار الأشخاص السالمين من كلّ مرض وتلوّث. وعليه، فالأشخاص الملوّثون بالذنوب، يجب أن يبقوا في مستشفى جهنّم حتّى يُنقّوا ويُطهّروا من تلك الأوساخ، عندها، يمكنهم الدخول إلى الجنّة، اللّهمّ إلّا إذا كانت ذنوبهم من النوع الذي لا ينفع معه علاج، كالكفر والنفاق، وبغض الله وأحبّائه؛ إذ تسبّب هذه الأمراض بقاءهم في ذلك السجن أبداً.
ما هو مرض القلب؟
كما أنّ لبدن الإنسان سلامة ومرضاً، فكذلك قلب الإنسان له سلامة ومرض. سلامة الجسم تتحقّق عندما تكون أجزاؤه كلّها صحيحة، فتؤدّي دورها، وتترتّب عليها آثارها التي خُلقت من أجلها. ومرضه يكون في نقص عضو منه وذهاب خاصيّته، فينتج عن ذلك الألم وصعوبة الحياة.
عندما يملك القلب اليقين والاطمئنان بالمعارف والحقائق والعقائد، ويكون مطهّراً من جميع الأمور القبيحة والحيوانيّة، عندها تترتّب على سلامته جميع خصائص الإنسانيّة وآثارها.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: “ألا وإنّ من البلاء الفاقة، وأشدّ من الفاقة مرض البدن، وأشدّ من مرض البدن مرض القلب. ألا وإنّ من النّعم سعة المال، وأفضل من سعة المال صحّة البدن، وأفضل من صحّة البدن تقوى القلوب”(2)؛ أي الطهارة من أنواع الأوساخ والذنوب.
خطورة مرض القلب
كما أنّه عندما يمرض عضو من البدن، فإنّ الإنسان يعيش حالة من الألم والضيق وتصبح الحياة صعبة عليه، فكذلك عندما يُبتلى الإنسان بواحد من أمراض القلب، فإنّه، مضافاً إلى الابتلاءات التي تواجهه بعد الموت -كما أخبر بذلك الشرع- فإنّه في هذه الدنيا يعيش ألماً وضيقاً، وتضغط عليه آلامٌ نفسيّةٌ إلى حدّ أنّه يرجّح الموت على الحياة، ويصبح مستعدّاً للانتحار. كما أنّ ألم الأسنان يُنسي الإنسان الفرح، ويحرم القلب والنفس كلّ لذّة، وينغّص عليه الحياة، فكذلك ألم الجهل، والكبر، والحسد، والعجب، وسائر الأمراض النفسانيّة، تترتّب عليها هذه الآثار.
والشخص الحسود، مثلاً، يتألّم، ويطير النوم من عينيه، وينطوي على نفسه؛ لأنّ شخصاً آخر حصل على نعمة أو وصل إلى مقام أو مرتبة دونه، ويبقى يحترق بنار الحسد، منتظراً زوال تلك النعمة عن صاحبها، وغالباً لا يصل إلى هدفه، وقد يموت بسبب نار هذه الحسرة.
ومن الثابت بالتجربة والعلم أنّ الأمراض النفسيّة تتسبّب بألم البدن ومرض الجسم؛ لأنّ الآلام الداخليّة تؤثّر في الأعصاب والأجهزة الأساسيّة للبدن، ممّا يدفع بأجزاء مجمل الجسم أن تؤدّي وظائفها بشكلٍ ضعيف، وهذا سبب كلّ مرض.
إثم القلب من مرض القلب
بما أنّ القلب سلطان الجسد، وأقوال اللسان وجميع الأفعال الاختياريّة مرتبطةٌ بإرادة القلب، فمن الواضح أنّه كلّما كان القلب مريضاً، فإنّ الأقوال والأفعال تكون كذلك أيضاً. من هنا، يصبح قول الإنسان ناشزاً، وفعله قبيحاً، وكلّ ذلك سيكون خلاف الفطرة الإنسانيّة وضدّ صراط الدين المستقيم.
كلّ ذنب يصدر عن شخص، فهو ناتج عن مرضه القلبيّ؛ لذلك، يجب على كلّ شخص -عقلاً وشرعاً- أن يسعى إلى معالجة مرض قلبه، وأن يهتمّ بسلامة قلبه أكثر ممّا يهتمّ بسلامة بدنه.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام عن أهل المعرفة: “يرون أهل الدنيا يعظّمون موت أجسادهم، وهم أشدّ إعظاماً لموت قلوب أحبّائهم”(3). وما ذلك إلّا لأنّهم يعلمون أنّ موت البدن حرمان من ملذّات بضعة أيّام من الدنيا، وأيّ ملذّات يا تُرى؟! إنّها الملوّثة بآلاف الآلام، ولكنّ موت القلب يؤدّي إلى الحرمان من السعادات الدائمة واللذائذ الخالصة الأبديّة، وإلى عدم الحصول على الحياة الإنسانيّة الطاهرة في الدنيا والآخرة.
بناءً عليه، لا يمكن عدّ مرض النفس سهلاً، ولا يصحّ التساهل في علاجه كما أنّ التساهل في علاج مرض البدن ليس مُبرّراً عقلاً؛ لأنّه قد يؤدّي إلى الموت. والتساهل في مرض القلب ينبغي اجتنابه بطريق أولى؛ لأنّه يؤدّي إلى الشقاء الأبديّ.
(*) مقتبس من كتاب: القلب السليم، الشهيد السيد عبد الحسين دستغيب، ج1، ص37-40.
(1) إشارة إلى قوله تعالى: ﴿فإنه آثم قلبه﴾ (البقرة: 283).
(2) بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 67، ص 61.
(3) (م. ن)، ج 67، ص 320.