قال الإمام علي عليه السلام: “من هَوَانِ الدنيا على اللهِ أنّه لا يُعصى إلاّ فيها، ولا يُنال ما عِنْدَه إلاّ بتركها“.
وهذا أمير المؤمنين يحدّثنا مرة أخرى عن مهالك الطريق وموانع السفر ليرفع أبصارنا إلى المحلّ الأعلى فننظر بعين القلب إلى ساحة الرحمة نستقل القليل الدنيء ونطلب الكثير العظيم.
فما دام السالك أسير الدنيا سجين قعرها المظلم بقي في وادي الهجران وعيشة الغموم والأحزان.
فلا يركنن أحدٌ إلى نفسه وينخدع بخدعها، فإنّها الأمارة بالسوء إلاّ ما رحم ربي تزين له الأمور فتجعله أهون هالك. فيظنّ نفسه من الناجين وهو في أسفل السافلين وما أحوجنا إلى معرفة هذا السجن حتّى ننجو من أخطاره ونحطم أغلاله فنخرج إلى ساحات النور.
* طلب الدّنيا
ألا وإنّ هذه الدّنيا التي أصبحتم تتمنونها وترغبون فيها، وأصبحت تغضبكم وترضيكم، ليست بداركم ولا منزلكم الذي خلقتم له ولا الذي دعيتم إليه.
هل فكرنا في حقيقة هذه الدّنيا التي نستيقظ كل يوم وبدون خجل لطلبها والتزود منها. نعيش غصّاتها، ونضحك لإقبالها. هل هي منزلنا الحقيقي ومصيرنا النهائي؟
* ترك الدنيا
ألا وإنها ليست بباقية لكم ولا تبقون عليها، وهي وإن غرّتكم منها فقد حذرتكم شرها، فدعوا غرورها لتحذيرها، وأطماعها لتخويفها؛ وسابقوا فيها إلى الدار التي دعيتم إليها، وانصرفوا بقلوبكم عنها، ولا يخنن أحدكم خنين الأمة على ما روي عنه منها.
ألم تفكر أيها الإنسان في روحك ونفسك التي هي نفخة إلهية (ونفخت فيه من روحي)، تبقى ولا تزول، ليست من صنف الدنيا ولا من أقرانها، فالدنيا تفنى وأنت تبقى فلماذا تطلب الفاني؟
ألم تسمع بفناء ما جمع وزوال ما عُمّر، فلماذا الغرور بما بين يديك وغداً يصبح المثل القديم.
ولماذا البكاء والحزن على شيء لا يبقى. فإن ذهب اليوم فهو غداً صائر إلى الزوال وعائد إلى البوار.
* غدرها
دار بالبلاء محفوفة، وبالغدر معروفة، لا تدون أحوالها، ولا يسلم نزالها.
أحوال مختلفة، وثارات متصرفة، العيش فها مذموم والأمان منها معدوم، وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة ترميهم بسهامها، وتفنيهم بحمامها.
أيها المسافر لا تنزل في بيت الدنيا، وأكمل السفر إلى العلا… فإنك إن حططت الرحال فيها هلكت، فهي التي تعطيك شيئاً لتأخذك، وتريك زينتها لتمكر بك.
﴿إنّا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً﴾ (الكهف:7).
* الدنيا والدين
ألا وإنّه لا يضركم تضييع شيء من دنياكم بعد حفظكم قائمة دينكم ألا وإنّه لا ينفعكم بعد تضييع دينكم شيء حافظتم عليه من أمر دنياكم.
وقال عليه السلام: ما ترك الناس شيئاً من أمور دينهم لاستصلاح دنياهم إلا فتح الله عليهم ما هو أضر منه.
ليست الدنيا والآخرة ضرتين فحسب، بل إن ترك الآخرة للدنيا خسارة للدنيا أيضاً.
فالناظر بالعقل العامل بالبصيرة يدرك مبلغ أمره ويعرف صلاح عيشه.
لم تصبح الدنيا سعادة إلاّ بتركها، ولم يصبح العيش فيها لذة إلاّ بالعمل الصالح.
فالدنيا مزرعة الآخرة.