الشيخ محمد يونس
تشغل مسألة اللباس قديماً وحديثاً حيزاً أساسياً من اهتمام الإنسان، لما لها من علاقة قوية بشكله ومظهره الخارجي، بل وأحياناً من نظرة الآخرين له، وذلك لأن قضية اختيار اللباس لها مساهمة فعلية ومؤثرة في إبراز جوهر المرء، وما يختزن من ثقافة وما يؤمن ويعتقد به من آراء ومفاهيم، ولذلك تناولت الأحاديث والروايات موضوع زي المسلم ولباسه، وإذ تركت هذه النصوص هامشاً كبيراً يمكن التحرك فيه، أكدت على جملة أمور وضوابط يستحسن التقيد والانضباط بها.
* موقف الشرع من التجمل
لا بد من الإشارة بداية إلى أن الشريعة حثت على ضرورة التجمل والتزين والتطيب. وأكدت على أهمية نظافة لباس المسلم وحسن شكله وتناسق ألوانه، بل واقتناء الألبسة المتعددة، وهذا كله من الأمور التي تحبذها الشريعة وتدعو إليها، بل وتعتقد كراهة التهاون بها، وإلى هذا المعنى أشارت النصوص التي قالت: “إذا أنعم اللَّه على عبد بنعمة أحب أن يراها علية لأنه جميل يحب الجمال”(1).
وفي روايةٍ عن أبي عبد اللَّه د: “بعث أمير المؤمنين د عبد اللَّه بن العباس إلى ابن أبي الكواء وأصحابه أي الخوارج . وعليه قميص رقيق وحلَّة، فلما نظروا إليه قالوا أنت خيرنا في أنفسنا وأنت تلبس هذا اللباس؟ فقال: “هذا أول ما أخاصمكم فيه، ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ (الأعراف/31)(2).
* اللباس والفطْرة
إذا كان اللباس في أصل وجوده مادة لستر الجسد كما قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا﴾ (الأعراف/36) فمن الطبيعي أن تعارض الشريعة كل لباس يحول دون مقتضيات الفطرة البشرية كالألبسة الشفافة والألبسة التي تظهر من الجسد أكثر مما تستر.
* اللباس والعرف
أما فيما يرتبط باللباس الذي ينبغي للمسلم اختياره. وهل من الضروري التركيز على زي محدد. أو على لباسٍ معين لبسه المسلمون في فترة زمنية سابقة مثلاً، فإن أول ما يطالعنا في هذا المقام ما رواه حماد بن عثمان قال: كنت حاضراً عند أبي عبد اللَّه د إذ قال له رجل: أصلحك اللَّه ذكرت أن علياً عليه السلام كان يلبس الخشن، يلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك، ونرى عليك اللباس الجيد، فقال له: “إن علي بن أبي طالب د كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر، ولو لبس مثل ذلك اليوم لشهَّر به، فخير لباس كل زمان لباس أهله، غير أن قائمنا إذا قام لبس لباس علي د وسار بسيرته”(3). وهذه الرواية في الواقع تضمنت قاعدة مهمة سلَّطت الضوء على الضابطة في اختيار اللباس، وهي أن خير لباس كل زمانٍ لباس أهله، فليس صحيحاً أن نقارن لباس الماضي بلباس الحاضر، أو العكس. لأن كل زمان له لباسه الخاص وزيه الخاص الذي قد يصلح لفترة زمنية أخرى وقد لا يصلح. ومن هنا فإننا نرى أن الشريعة أكدت على ضرورة مراعاة الناحية العرفية والاجتماعية في لباس المسلم. مستنكرة أي لباس يستهجنه العرف ويراه منافياً لرأي عامة الناس. لما يتركه ذلك من انطباعٍ سيء أو سوء فهم، وبالتالي من حدود وحواجز مع الآخرين ينبغي للمسلم اجتنابها والابتعاد عنها. ومن هنا فإنه إذا تعددت الأعراف من مكانٍ إلى آخر وفي زمانٍ واحد. كما هو الحال في واقعنا اليوم، حيث ترى بعض البلدان تتزيَّا بالألبسة الطويلة الفضفاضة، ويتزيَّا اخرون بالألبسة المزركشة والكثيرة الألوان، وهكذا فإنه ليس من الضروري حينئذٍ الالتزام بزيٍ خاص أو شكلٍ خاص في اللباس، بل لا مانع من الناحية الشرعية التقيد بحدود العرف سيما فيما يعتبره لباساً مستنكراً.
* اللباس والشرع
نعم لا بد من الإشارة إلى مسألة وهي فيما لو تعارض اللِّباس الذي يقره العرف في زمانٍ ما، أو مكانٍ ما مع الضوابط الشرعية والفطرية، كما لو أقر العرف ألبسة الشهرة، أي الألبسة التي تخالف الذوق العام، وتضع صاحبها محط الأنظار ومثار الأقوال فإنه والحال هذه لا بد من الالتزام بالضوابط الشرعية التي يسعى الشرع من خلالها إلى المحافظة على البعد الإنساني في شخصية المسلم. هذا البعد الذي يعتبر الأساس في أصل وجوده، ومحور تحركه. وقد ورد عن أبي عبد اللَّه د: “كفى بالمرء خزياً أن يلبس ثوباً يشهِّره أو يركب دابة تشهِّره”(4). ونشير هنا أن اللِّباس قد يخرج عن المألوف بأمورٍ كثيرة كشكله وكيفية تصميمه وتوزع ألوانه ونوع قماشته وغير ذلك من أمور أشارت إليها الشريعة. وهدفت من خلالها إلى إيجاد توازن في شخصية المسلم بين الشكل والمضمون. والظاهر والجوهر. وبكلمة أخيرة فإن العرف وإن كان له الفطرة الأولية في موضوع لباس المسلم. لكن يبقى للشرع دور الرقيب. وحق التدخل فيما لو رأى أن العرف قد تخطى حدود الفطرة البشرية. والذوق العام، سيما في أيامنا هذه التي باتت الأسواق تزخر بشتى أصناف الألبسة. التي لا تراعي حداً شرعياً أو ذوقاً عرفياً أو سلامة فطرة.
(1) الكافي، ج6، 438.
(2) الكافي، ج6، ص441 442.
(3) الكافي، ج6، ص444.
(4) الكافي، ج6، ص445.