الشيخ محمد رضا نعماني
“إنّ دمي هو الذي سيُترجمني. فأنا لا أريد إلّا خدمة الإسلام. وهو اليوم بحاجة إلى دمي أكثر من حاجته إلى ترجمتي…”. هي كلماتُ رجلٍ جسّد الإسلام فكراً وسلوكاً. وذاب فيه إلى الحدّ الذي رأى أنّ شهادته هي آخر ما يمكن أن يقدِّمه له ويخدمه فيه.
لقد جمع الشهيد الصدر قدس سره من الصفات الجاذبة ما يجعل حالة الانجذاب إليه عامّة؛ فيتأثر به بعضٌ لإبداعه وعمقه العلميّ. وقد يتأثر آخرون بعمق فكره ودقّة منهجه، فيما يتأثّر غيرهم بخُلُقه المحمّدي، أو ترابيّته العلويّة. فيا ترى ما هي السمات التي تجعل الإنسان يتعلّق بهذه الشخصية ولا يفتُر انجذابه إليها؟
* هذه أموال صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف
إنّ عاطفة السيّد الشهيد ليست حالة فطرية جبل عليها فقط، بل إنّه استطاع أن يربّيها وينمّيها حتّى يراها الرائي، ثمّ سخّرها لخدمة مصلحة الإسلام. ولا مغالاة إذا قلنا إنّ “الزهد” كان من سمات هذه العائلة المظلومة، وخُلُقاً من أخلاقها، فقد اعتادوا العيش والاكتفاء بما هو موجود، بل كانوا لا يحبّون التمايز والتفاخر على غيرهم، وهو الذي عمل على تربية أطفاله على هذا السلوك، حيث كان يقول لهم عندما يتساءلون عن فرزه لأكوام من المال بين يديه: “أبنائي، هذا المال ليس لي، هذه أموال صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، هذه أموال المسلمين أمانة في يدي… أولادي، المال ليس مهمّاً، وهذه الدنيا لا قيمة لها، إنّنا نريد الآخرة. والآخرة خيرٌ لنا وأبقى”.
* لا أصلّي إلّا بحضور قلب
وإنْ كان لا بدّ من أن نكتب شيئاً عن الجانب العباديّ، فيكفي، في هذا المختصر، أن نذكر الوعد الذي قطعه على نفسه: “إنّي آليت على نفسي منذ الصغر أنْ لا أصلّي إلّا بحضور قلب وانقطاع، فأضطرّ في بعض الأحيان إلى الانتظار حتّى أتمكّن من طرد الأفكار التي في ذهني، حتّى تحصل لي حالة الصفاء والانقطاع، وعندها أقوم للصلاة”.
* إنّ خياري هو الشهادة
كان للسيّد الشهيد الموقف المشرّف في دعم المرجعيّة الكبيرة، وفضح السلطة المجرمة، التي لا همّ لها إلّا فرض الإقامة الجبريّة عليه واعتقاله ومضايقته والتجسّس عليه. فإنّ أكثر ما كان يخشاه ما عبّر عنه بقوله: “إنّي -والله- أخشى أن أقبّل أطفالي خشية أن تسرقها أجهزة التنصّت الموضوعة في البيت، وتسخّرها السلطة لأغراض دعائيّة ضدّي وتصوّرها للناس بشكل آخر”.
ومع ذلك كله، صمَّم -هو ومن ومعه- على تحمّل مأساة الحصار وتحويلها إلى قضيّة تحقّق للإسلام أكبر قدر ممكن من الانتصار، والشاهد هو موقفه: “إنّني مستعدّ لأن أبقى مع عائلتي محتجزاً مدى العمر، أو أُضحّي بنفسي وبهم. إذا كان ذلك يحقّق للإسلام نصراً في العراق”.
بعد جهاده الطويل ضدّ حكم الطاغية لم يعد يملك إلّا خياراً أخيراً واحداً هو الاستشهاد. حتى أنّ الشهيدة بنت الهدى قالت له يوماً: “أخي، إذا كنّا نحن المانع لك، فنحن والله لا نبالي، فنحن على استعداد لأن نموت من أجلك. إنّ هذا طريقنا”. ليأتي ردّه: “إنّ خياري هو الشهادة، فهي آخر ما يمكن أن أخدم به الإسلام”.
بعد فشل المحاولات كافّة مع السيّد الشهيد للحصول ولو على قدر بسيط من التنازل للسلطة. قُرّر تنفيذ حكم الإعدام فيه، فما كان منه في آخر أيامه إلّا أن انقطع إلى ربّه انقطاعاً كاملاً، فكان بين تالٍ للقرآن الكريم الذي بات جليسه وأنيسه، أو مُسبّح حامد، وكان أكثر ذكره: “سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر”.
* وداع يقين
وفي الخامس من نيسان عام (1980م) جاء المجرم مدير أمن النجف بنفسه لاعتقال السيد الشهيد الصدر. فقال له السيّد: “انتظرني دقائق حتّى أودّع أهلي”، لكن مدير الأمن اعترض عليه مستغرباً: “لا حاجة إلى ذلك. ومع ذلك فافعل ما تشاء”. فقام السيّد الشهيد وودّع أهله وأطفاله وأوصاهم بشكل خاص: “أنا أعلن لكم يا أبنائي أنّي صمّمت على الشهادة، ولعل هذا آخر ما تسمعونه منّي. إن أبواب الجنّة قد فُتحت لتستقبل قوافل الشهداء. حتّى يكتب الله لكم النصر. وما ألذّ الشهادة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّها حسنة لا تضر معها سيئة. والشهيد بشهادته يغسل كلّ ذنوبه مهما بلغت!”.
(*) مقتبس من كتاب: سنوات المحنة وأيّام الحصار، للشيخ النعماني. الذي لازم الشهيد الصدر قدس سره. واستأذنه لكتابة سيرته تثبيتاً لأحداث خطيرة عاصرها سماحته. وكان شاهداً عليها وشهيداً.