من الآداب القلبيّة للصلاة وسائر العبادات، وله نتائج حسنة. بل هو موجب لفتح بعض الأبواب وكشف بعض أسرار العبادات، أن يجتهد السالك في أن تكون عبادته عن نشاط وبهجة في قلبه وفرح وانبساط في خاطره…
* آثار العبادة مع الكسل
إنّ حمل النفس على العبادة حين الكسل والتعب، يمكن أن تترتّب عليه آثار سيّئة، منها:
1- أن يتضجّر الإنسان من العبادة ويزيد تكلُّفه وتعسّفه،
2- وذلك يوجب -وبالتدريج- تنفر طباع النفوس منها.
3- ومن الممكن أن ينصرف الإنسان بالكامل عن ذكر الحق. ويؤذي الروح من مقام العبودية. التي هي منشأ جميع السعادات.
وقد ذكرنا من قبل أنّ المطلوب في العبادات هو صيرورة باطن النفس صورةً عبوديّة.
* أسرار العبادات والرياضات
إنّ من أسرار العبادات والرياضات ونتائجها أن تنفذ إرادة النفس في ملك البدن… وتتملك الإرادة القوى المنبثّة والجنود المنتشرة في ملك البدن وتمنعها عن العصيان والتمرّد والأنانيّة والاستقلال وتكون القوى مسلّمة لملكوت القلب وباطنه، بل تصير القوى -بالتدريج- فانية في الملكوت. ويجرى أمر الملكوت في الملك وينفذ فيه وتقوى إرادة النفس وتخلع اليد عن الشيطان والنفس الأمارة في المملكة وتساق جنود النفس من:
الإيمان إلى التسليم. ومن التسليم إلى الرضى، ومن الرضى إلى الفناء.
وفي هذه الحال تجد النفس رائحة من أسرار العبادة. ويحصل لها شيء من التجليات الفعليّة. وما ذكرنا لا يتحقّق إلا بأن تكون العبادة عن نشاط وبهجة، ويحترز فيها من التكلّف والتعسّف، كي تحصل للعابد حالة المحبّة والعشق لذكر الحق ولمقام العبوديّة، ويحصل له الأنس والتمكن.
* العبادة مع السرور والبهجة
إن الأُنس بالحقّ وبذكره من أعظم المهمات، ولأهل المعرفة بها عناية شديدة، وفيها يتنافس المتنافسون من أصحاب السير والسلوك. وكما أنّ الأطباء يعتقدون بأنّ الطعام إذا أكل بالسرور والبهجة يكون أسرع في الهضم، كذلك يقتضي الطبّ الروحانيّ أنّ الإنسان إذا تغذّى بالأغذية الروحانية بالبهجة والاشتياق محترزاً من الكسل والتكلف. يكون ظهور آثارها في القلب وتصفية باطن القلب بها أسرع.
وقد أشير إلى هذا الأدب في الكتاب الكريم الإلهي والصحيفة القويمة الربوبية. حيث يقول في مقام تكذيب الكفار والمنافقين: ﴿وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ (التوبة: 54).
وقد أشير في الروايات إلى هذا الأدب. ونحن نذكر بعضاً منها كي تفخر هذه الأوراق به.
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عليّ، إنّ هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق ولا تبغّض إلى نفسك عبادة ربّك”(1).
وفي الحديث عن العسكري عليه السلام: “إذا نشطت القلوب فأودعوها وإذا نفرت فودّعوها”(2).
وهذا دستور جامع منه عليه السلام بأنْ أودعوا في القلوب وقت نشاطها. وأما وقت نفورها فخلّوها تستريح. فلا بد في كسب المعارف من رعاية هذا الأدب. وألّا يحمل على القلوب اكتسابها مع الكراهة والنفور(3).
* أدب “رعاية أحوال النفس”
يستفاد من الحديثين السابقين وأحاديث أُخَر أدب آخر -وهو أيضاً من المهمّات في باب الرياضة- وهو أدب الرعاية.
وكيفيّته أن يراعي السالك حاله في الرياضات والمجاهدات العلميّة أو النفسانيّة أو العمليّة. ويتعامل مع نفسه بالرفق والمداراة، ولا يحمّلها أزيد من طاقتها وحالها خاصّة الشباب، فإذا لم يعامل الشباب أنفسهم بالرفق والمداراة، ولم يؤدّوا الحظوظ الطبيعيّة إلى أنفسهم بمقدار حاجتها من الطرق المحلّلة، يوشك أن يقعوا في خطر عظيم، لا يتيسر لهم جبره، وهو أن النفس ربّما تصير -بسبب الضغط عليها- مطلقة العنان في شهواتها. ويخرج زمام الاختيار من يد صاحبها، ولاشتعلت لا محالة وأحرقت جميع المملكة. فعلى السالك أن يتملك نفسه في أيام سلوكه، كطبيب حاذق، ويعاملها على حسب اقتضاءات الأحوال وأيّام السلوك، ولا يمنع نفسه الطبيعيّة في أيّام اشتعال نار الشهوة وغرور الشباب من حظوظها بالكليّة، وعليه أن يخمد نار الشهوة بالطرق المشروعة. فإنّ في إطفاء الشهوة بطريق الأمر الإلهي، إعانةً كاملةً على سلوك طريق الحق، فلينكح وليتزوّج فإنّه من السنن الكبيرة الإلهية. ومضافاً إلى أنّه مبدأ البقاء للنوع الإنسانيّ. فإن له دوراً واسعاً أيضاً في سلوك طريق الآخرة. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “من تزوّج فقد أحرز نصف دينه”(4). وفي حديث آخر: “من أحبَّ أنْ يلقى الله مطهَّراً فليلقه بزوجة”(5).
* رعاية النفس في الإقبال
وبالجملة، يلزم لسالك طريق الآخرة رعاية أحوال إدبار النفس وإقبالها. فكما أنه لا يجوز له الكفّ عن الحظوظ مطلقاً، فإنه منشأ لمفاسد عظيمة لا ينبغي له أن يزعج نفسه في العبادات والرياضات العمليّة، وألّا يجعلها تحت الضغط، خصوصاً في أيّام الشباب وابتداء السلوك، فإنّه أيضاً يكون منشأ لانزعاج النفس ونفورها. وربّما ينصرف الإنسان به عن ذكر الحق. والإشارة إلى هذا المعنى في أحاديث كثيرة، ففي الكافي الشريف:
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: “اجتهدت في العبادة وأنا شابّ، فقال لي أبي: يا بنيّ دون ما أراك تصنع، فإن الله عزّ وجلّ إذا أحبّ عبداً رضي منه باليسير”(6).
وفي حديث آخر: “ولا تبغّض إلى نفسك عبادة الله”.
* الميزان في العبادة والرياضات
وبالجملة، الميزان في باب المراعاة أن يكون الإنسان ملتفتاً إلى أحوال النفس، ويسلك معها بنسبة قوتها وضعفها، فإذا كانت النفس قوية في العبادات والرياضات وتقدر على المقاومة، فليجدّ وليسعَ في العبادة. وأما الذين طوَوا أيام عنفوان الشباب، وانطفأت نائرة الشهوات شيئاً ما لديهم، فالمناسب لهم أن يجدّوا في الرياضات النفسانيّة أكثر ويدخلوا في السلوك والرياضة بخطوة رجوليّة، فكلما عوّدوا النفس على الرياضات فُتح لهم باب آخر إلى أن تغلب النفس القوى الطبيعية وتصير القوى الطبيعية مسخّرة تحت كبرياء النفس.
وما ورد في الأحاديث الشريفة من الأمر بالجدّ والسعي في العبادة، وما ورد فيها من المدح للذين يجتهدون في العبادة والرياضة، وما ورد في عبادات أئمة الهدى عليهم السلام، من جهة، وما ورد من هذه الأحاديث الشريفة المادحة للاقتصاد في العبادة من جهة أخرى، مبنيّ على اختلاف أهل السلوك ودرجات النفوس وأحوالها. والميزان الكلّي هو نشاط النفس وقوَّتها أو نفور النفس وضعفها.
(*)يراجع: الآداب المعنوية للصلاة، الإمام الخميني قدس سره من ص: 56-61.
1.الوافي، الكاشاني، ج4، ص360.
2.مستدرك الوسائل، الطبرسي، ج1، ص144.
3.ومن الروايات التي تشير إلى هذا الأدب ما رواه الصدوق عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها وأحبّها بقلبه، وباشرها بجسده وتفرّغ لها، فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا على عسر أم على يسر”. وقال الباقر عليه السلام: “ألا إنّ لكلّ عبادة شرةً، ثم تصير إلى فترة، فمن صارت شرة عبادته إلى سُنَّتي فقد اهتدى، ومن خالف سنّتي فقد ضلّ، وكان عمله في النار. أما إني أصلّي وأصوم وأفطر وأضحك وأبكي، فمن رغب عن منهاجي وسُنَّتي فليس مني”.
4.الأمالي، الطوسي، ص518.
5.من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج3، ص385.
6.بحار الأنوار، المجلسي، ج47، ص55.