محمد تقي خرسنده
لم تكن آثار تعب ثمانية أيام من السفر قد زالت عن جسدي، حين اتصل مهدي: “تقي، إرجع إلى قم، لقد أُضيف يوم إلى الرحلة. غداً مساء لدينا برنامج لقاءات”.
كنا سبعة أشخاص مع الكثير من وسائل التصوير، والأغراض، فهذه هي الليلة الأخيرة والجميع قد جهّز نفسه للرجوع إلى طهران فور انتهاء الزيارات. كانت فكرة انتهاء السفر ومتاعبه تخفف عنا صعوبة جلوسنا في تلك المقطورة الضيقة. وسط هذه الزحمة الخانقة ارتفعت الأصوات بالمزاح والنكات في طريقنا للوصول إلى منزل الشهيدين من آل “كاركوب زاده”: الشهيدين خليل وعبد الجليل.
*ضيفٌ قادم
حين وصلنا إلى المنزل، كانت الصدمة الأولى التي بَدَتْ على وجوه الجميع: سرير داخل الغرفة، يرقد عليه والد الشهيدين الذي قد أصيب بسكتة دماغية منذ سنة ودخل فيما يشبه الكوما.
كانت جدران البيت الفقير حافلة بصور الجبهة والحرب كان منزلهم -كما عبّر أحد الشباب- يشبه مركزاً للتعبئة أكثر من كونه بيتاً.
أُخبر أفراد الأسرة الآن فقط أن ضيفهم القادم هو “الإمام القائد”. طلبت منهم ألا يخبروا أحداً باستثناء شقيق الشهيدين، إذ طلبنا نحن منهم الاتصال به كي يأتي إلى المنزل حالاً والحجّة هي أنّ المحافظ جاء لزيارتهم.
بعد عدة دقائق، دُقَّ جرس المنزل. كانت امرأةٌ عجوزٌ خلف الباب. عرفنا أنها جارة العائلة وأنها أم شهيد أيضاً، تأتي كل مساء لتؤنس أم الشهيدين !!
فُتح الباب وأُدخلت الجارة بسرعة، وهي متعجبة من عدد الضيوف الآتين هذه الليلة.
حاولتُ أن أستعلم أكثر عن أحوال أهل المنزل وأخبارهم، قبل وصول القائد. إنهم من مدينة “شوشتر”، وكانوا يقيمون في “عبادان” حين بدأت الحرب. لهجتهم العربية قوية. كانت الوالدة تكرر ذكريات حصار “عبادان” حيث بقوا محاصرين لمدة وحين قرروا أن يخرجوا من المدينة، لم تتمكن ابنتهم التي كانت حينها في الصف الثاني الابتدائي، من المشي لشدة خوفها.
*لعله يظهر مع صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف
كان أفراد الأسرة ثمانية، خمسة صبيان وثلاث بنات. استشهد اثنان من الشباب، وفقدت آثار الثالث “منصور”، ولكن الأخت تقول: “حتى الآن، كل من رأى “منصوراً” في المنام كان يراه حياً، وليس شهيداً وكان يقول: سوف أعود إليكم. “نحن لا نعلم متى سيعود. لعله يظهر مع إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف”.
كذلك الأخوان اللذان ما زالا على قيد الحياة، من جرحى الحرب. أحدهما جرح أربع مرات. تقول أمه: إن الإمام الرضا عليه السلام قد شفاه مرتين. وقد بقي ثماني سنوات أسيراً في العراق وأصيب بالشلل بيده بسبب قطع عصب فيها.” هذا الأخ هو نفسه الذي أُخبر بالزيارة وهو في طريقه إلينا.
الأخ الآخر جريح أيضاً. تقول الأم: “كل من لم يرقد على سرير الجرحى لا يمكن اعتباره إنساناً حقيقياً“. هي وزوجها أيضاً من الجرحى. كانت الأم قد أصيبت بالغازات الكيميائية في الحرب، وجرحت مرة أخرى في مجزرة الجمعة الدامية في مكة المكرمة عام 88.
*لقد جاء السيد
أصوات اللاسلكي تشير إلى وصول السيد القائد دام ظله. و حين أطل، لم يبقَ أثر لذلك الصبر والمزاح التي كان عند الأم… فأجهشت بالبكاء… “اللهم صل على محمد وآل محمد… اسمح لي يا سيدي أن أدور حولك (وهو اصطلاح يدل على محاولة حماية الشخص من الحسد وكأنه يبخره بالصلاة على محمد وآله وهو يدور حوله). عندما شاهد القائد السرير، يسأل: “هل هو غائب عن الوعي أم صاحٍ؟” أجابت الأم “أنه يشعر بما حوله ولكن حواسه لا تعمل”. يسلم القائد عدة مرات بصوت مرتفع ثم يقول: “إن شاء الله يحفظكم ويديمكم، آجركم الله، حشر الله شهيديكم مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم”. وتقول الأم لزوجها: “قم يا حاج، لقد جاء السيد”. ثم تلتفت نحو القائد وتقول: “أهلاً وسهلاً في بيت الشهداء“.
أجهشت الجارة بالبكاء “يا سيدي، لقد أصيب ابني فقطع نخاعه الشوكي، وبعد أربع سنوات ارتفع شهيداً. فانهمرت دموع الحاضرين”.
يجلس القائد على الكرسي ويهمُّ بالسؤال عن أحوالهم ولكن والدة الشهيدين تسارع بالعتاب: “يا سيد! حزني كبير وهمّي لا يوصف. والله لقد ساءت حالتي كثيراً”. يسأل القائد: “لماذا؟”
فتكمل الحاجة: “لقد اتصلت صباح الأمس بمكتبكم وقلت لهم فلينزل الله غضبه على مسؤول البرامج الذي حرمني من رؤية السيد”. فيضحك الجميع. ويضحك القائد لكلامها.
“قلت لهم، ألا أستحق هذا؟ وضعي الصحي لا يسمح لي بالذهاب، ولم أشاهده منذ سنة ولا على التلفاز”. وتضيف أن مرضها اشتد كثيراً، حالياً.
قبل أن يصل القائد، كانت قد أخبرتني أنها في الأسبوع الماضي كتبت رسالة للقائد.
*سيدتي…أرسلي عزيزك إلى بيتنا
قال القائد بأنه قرأ الرسالة التي كان فيها أبيات من الشعر. ثم أكمل: “لم يكن من المقرر أن أبقى هنا في قمّ هذه الليلة. لقد بقيت فقط لأجلكم. لقد زرنا منزلي شهيدين آخرين أيضاً. لكنني بقيت فقط من أجلكم، كي أتمكن من رؤيتكم”.
تلك الأم بحالتها الصحية، وورقتها الصغيرة، أطالت زيارة القائد يوماً إضافياً:
أغلى أمنية عندي أن تزورني
وتأتي للقائي وعيادة زوجي العليل
سنة مضت وهو راقد على فراش المرض
أستحق منك أن تطلّ على قلبي الحزين
تتابع الحاجة: “لقد قلت للسيدة المعصومة عليها السلام: يا سيدتنا العزيزة، أنت أرسلي عزيزك إلى بيتنا. أقسمتُ عليكِ أن ترسلي السيد“. فيقول القائد: “إنهم هم من أرسلونا”. وتسنح الفرصة ليسأل القائد عن أولادها، فيما جارتها أم الشهيد تتنفس بصعوبة من شدة البكاء، فتقول لها أم الشهيدين: “لا تهلكي نفسك الآن، بل استغلّي فرصة لقائك بالسيد”. مرة أخرى وسط البكاء ينفجر الجميع بالضحك لكلامها.
تتحدث عن أولادها: “الابن الأكبر نجح في البكالوريا في أول سنة للحرب حزيران 1981م واستشهد. الثاني كان في الثانوية واستشهد كذلك في تلك السنة. الثالث أسر مع أخيه الذي أصيب أربع مرات” يدعو القائد لتلك الأسرة: “إن شاء الله يفرح قلوبكم وينير أبصاركم بأخبار سارة. بأحداث جيدة وأجر عظيم”.
*الحمد لله نستطيع أن ندعو الله
تتابع الأم: “الحمد لله والشكر له، نحن دائماً ثابتو الجَنان، لأننا نستطيع أن ندعو الله فهو سبحانه لم يعقد لساننا عن الدعاء. إذا أساء أحدٌ العمل ندعو له بالخير ونقول: اللهم أبدله بعمل جيد. وإذا قصر أحدهم بعمله ندعو له: اللهم وفِّقه لعمل أفضل”.
كانت الأم تتابع تفصيل أدعيتها حين وصل ابنها وزوجته وولداهما. ولم يكونوا قد علموا من هو الضيف الخاص.
حين وصلوا إلى باب الغرفة سمّرتهم الدهشة في أماكنهم. وقع الرجل أرضاً وهو يشهق باكياً. لم يكن وضع الزوجة والأولاد أفضل.
وأكمل القائد كلام الأم: “إن شاء الله يستجيب أدعيتكم، ويفرح قلبكم، ويشملنا أيضاً بفيوضات هذه الأسرة النورانية وبركاتها “. ثم يطلب من الأم أن تقوم بتعريف الحاضرين.
بادرت أخت الشهيدين إلى تعريف كل الحاضرين ولكنها نسيت أن تعرفه على نفسها. يسألها القائد: “هل أنت ابنة هذه العائلة؟” تجيب الأم بالإيجاب وتعيد ذكريات عبادان: “ما تزال أعصابها متعبة حتى الآن، عمرها أربعون سنة. وهي العصا التي نتوكأ عليها، أنا وأبوها.
كانت أم الشهيدين تتابع شكر الله وحمده طيلة الوقت. وتتابع: “لكنني أشكر الله على أنكم موجودون، الطيبون موجودون، ضاعف الله الطيبين، وأصلح حال السيئين أيضا. وإن لم يرغبوا بإصلاح أنفسهم ليأخذهم الله … كي تستريح البلاد منهم”. ويضحك الجميع مجدداً.
*تركه منصبه يعني الكثير
تطلب والدة الشهيدين الإذن للمعاتبة فتقول: “سيدي! إن المنطقة هنا تشكو من نقص في وسائل النقل العامة، السكان في حيِّنا يعانون.” لقد جاء المحافظ السابق إلى هنا، قلت له إن لم توفروا النقل العام فسأشكوك للسيدة المعصومة عليها السلام، ولكن السيدة المعصومة عليها السلام بريئة وطيبة لدرجة أنها لم تفعل له شيئاً. ضحك الجميع وكتب المحافظ الجديد دون أن يقول القائد شيئاً. أجابها القائد: “كلا فمجرد تركه منصبه وخروجه من قم فهذا يعني الكثير”.
*أرواحنا فداك
يقدم القائد مصحفاً وليرة ذهبية لأم الشهداء ولجارتها أم الشهيد. ثم يستأذن من الأم للرحيل. “ادعي لي، فأنا بحاجة لدعائك”. يتقدم مجدداً نحو السرير ويقبل والد الشهيدين. يقدم كوفيته إلى الحفيد الذي حضر من مركز التعبئة مرتدياً بدلة التعبئة وطلب الكوفية كي يكتمل زيّه التعبوي.
وودع الجميع وسط الدموع والمشاعر الجياشة وهكذا اختتمت زيارة قم بهذا الوداع.
حين كنا نهمّ بالخروج شكرتنا أم الشهيد وقالت:“في السابق كنا نقول: إما الموت وإما الخميني. والآن نقول: طالما نحن أحياء… أرواحنا فداء للقائد“.