الشهيد مرتضى مطهري
عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: “أول الدين معرفته”1.
لو شبّهنا الدين ببناء يتألّف من جدران وباب، وسقف، ونوافذ، وقواعد ينهض عليها البناء فإنّ قواعد جميع الأفكار والعقائد والأخلاق الدينية هي معرفة الله. ولو شبّهنا الدين بكتاب علمي يضم أبواباً وفصولاً وقضايا متنوعة وأفكاراً يقوم عليها أصل الكتاب فإن معرفة الله سبحانه هي الأساس الأول في ذلك.
*التوحيد أساس التديّن
إذا أردنا مثلاً أن نخزن مقداراً من مواد البناء فليس مهمّاً كيفيّة ترتيبها. وإذا أردنا أن نؤلّف كتاباً متنوعاً يضم مقالات مختلفة فليس مهمّاً ترتيب مقالاته أو تسلسلها، ذلك أنه كتاب متنوع في مواضيعه. وحتى مطالعة مثل هكذا كتاب لا تلزمنا بأن نبدأ بالموضوع الأول أو بالصفحة الأولى، إذ يمكننا أن نبدأ من منتصف الكتاب أو من آخره. أمّا إذا أردنا أن نقيم بناءً معيّناً فإن الأمر يختلف تماماً. فالتسلسل والدقَّة والحساب أمور مطلوبة. وكذلك لو أردنا أن نؤلّف كتاباً علمياً أو أردنا مطالعته فإن أول شيء نفعله هو مواكبة الكتاب من بدايته وحسب ترتيب مواضيعه.
فالتدين المنطقي والسليم يُلزم المرء بأن يشرع من البداية، من الأسس، وهي: التوحيد ومعرفة الله. وإذا لم يثبت هذان الأصلان في أعماق الروح وطيّات القلب فإنّ سائر الأجزاء ستبقى دونما أساس متين.
*قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا
هل قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: صلّوا أو صوموا عندما صدع بدعوته وبشّر برسالته؟ وهل قال: صِلوا أرحامكم ولا يظلم بعضكم بعضاً؟ وهل دعا إلى الالتزام بالآداب المستحبّة في المشي أو الجلوس أو تناول الطعام؟ إنّه لم يقل أو يذكر من ذلك شيئاً. بل هتف صلى الله عليه وآله وسلم: قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا. لقد بدأ الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم دعوته إلى الدين الحنيف. بهذه العبارة فاحتلّ بها قلوب العالمين. ومن ثم بنى أمّته العظيمة انطلاقاً من ذلك الأساس المتين.
*معرفة الله جوهر الوجود الإنساني
إنّ معرفة الله لا تقتصر على الدين فحسب، بل إنها جوهر الوجود الإنساني، ذلك أنّ بناء الإنسان لا يتمّ إلّا على أسس التوحيد.
إننا نطلق على كثير من الأمور والشؤون وننعتها بالإنسانية، فنقول: إنّ الإنسانية تقتضي الرحمة والمروءة والإحسان، وإنّ الإنسانية تنشد السلام وتنفر من الحرب وتجعلنا متعاطفين مع المرضى والجرحى والمنكوبين. وتدفعنا إلى مساعدة المحتاجين وتطلب منّا التضحية بالنفس واحترام حقوق الآخرين. وإلى غير ذلك من المواقف والسلوك. وكل ذلك صحيح لا يعترض عليه أحد. بل إنّ على كل إنسان أنْ يحقّق إنسانيته من خلال ذلك. ولكنّا لو تساءلنا عن الأسس المنطقية التي تستند إليها تلك الوصايا والأخلاق التي تدفعنا إلى التضحية بمصالحنا. من أجلها فإننا سنكون حينها عاجزين عن إقناع أنفسنا والآخرين بالفلسفة الكامنة. وراء تلك الأخلاق والمواقف إذا لم نأخذ بنظر الاعتبار معرفة الله.
لا يمكننا أبداً اكتساب القيم الأخلاقية الرفيعة أو الانتهال من الفيض الروحي بعيداً عن نبعه الإلهي. فحتى أكثر المؤسسات مادّيةً في العالم تجد نفسها مضطرة إلى أن تبني نظمها الاجتماعية على أسس أخلاقية.
*طريقان لا ثالث لهما
لا يمكن إقصاء الإنسانية بعيداً عن معرفة الله؛ فإمّا الإيمان أو السقوط في حضيض الحيوانية حيث عبادة الذات، والمصلحة الشخصية وما تضجّ به من انقياد إلى الشهوة والوقوع في أسرها؛ فإمّا عبادة الله أو عبادة البطن، والجاه، والمناصب والمال. وليس هناك من طريق ثالث. ومن يدّعِ الشرف والخُلُق والتقوى والعفّة وهو بعيد عن الله الذي هو نبع كل تلك الصفات فإن ذلك مجرّد أوهام لا غير.
ويعبّر القرآن الكريم عن هذه الحقيقة بقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ (إبراهيم: 24 – 25).
فالإيمان شجرة تمدّ جذورها في أعماق الروح فتتفرع منها أغصان الاعتقاد بالنبوّة والولاية والأديان. وكذلك الاعتقاد بأنّ هذا العالم قائم على العدالة والحق. وأنّ الله تعالى لا يضيع أجر المحسنين وسيلقى المسيئون جزاء أعمالهم.
أما ثمار هذه الشجرة الطيبة فهي الشرف والكرامة والعفّة والتقوى والإحسان والتسامح والفداء والقناعة والطمأنينة والسلام.
وفي مقابل ذلك يضرب القرآن مثلاً آخر، يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ﴾ (إبراهيم: 26)؛ وهذه حقيقة تتجلى أحياناً في أفراد نراهم يتحمّسون دفاعاً عن عرقٍ أو قوميةٍ. أو يقعون تحت تأثير بعض العقائد فتشتعل في نفوسهم المشاعر الكاذبة التي قد تدفعهم إلى التضحية بأرواحهم من أجلها. ولو سنحت الفرصة لأحدهم أو راجع نفسه قليلاً لعجز عن إيجاد أساس منطقي لموقفه وسلوكه. فقليل من التأمّل والإرشاد سوف يقشع تلك السحب عن سماء روحه.
*أساس إنساني متين
إن الإيمان هو وحده الذي يمتلك الأساس الإنساني المتين وإن قواعد البناء الإنساني إنما تنهض على التقوى والاستقامة والطهر وعلى الشجاعة والشهامة والفداء. وهي الخصال التي يمتاز بها الإنسان عن الحيوان.
الإيمان بالله وحده البديل لعبادة الذات والمصلحة الشخصية. وهو ما يشير إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾.(البقرة: 257).
1- نهج البلاغة. خطبة 1.