الإمام الخميني قدس سره: التأسيس
يوسف الشيخ
شهِد العقد الحالي من القرن العشرين تطوراً تقنياً هائلاً في وسائط الاتصال والإعلام وأصبحت الرسالة الإعلامية مع هذا التطور تأخذ أشكالاً وأطواراً جديدة لم تكن بالحسبان مع المناقشات الحادة التي برزت أواخر عقد الثمانينات والتي تمحورت حول ماهية الإعلام ووظيفته الثقافية والقيمية فضلاً عن انتمائه وهو فرع من فروع العلوم الإنسانية…
ومع التطور الهائل في تقنية الإعلام طرح العلماء والبحاثة إشكالية حول وظيفة هذا الإعلام الثقافية وملاءمته سلسلة الدعوات التي اجتاحت العالم أجمع مع حلول العام 1990 والتي دعت إلى الاستفادة من التكنولوجيا لترويج الفكر السياسي بأخلاقية تتناسب مع الدعوات التي تطالب باحترام الإنسان وقيمه وخصائصه الثقافية.
إلاّ أنّ هذه الإشكالية وهذه الدعوات بقيت أسيرة اتجاهات وقيود نافذة ومؤثرة استطاعت القبض على الإعلام والتحكم به وفقاً للمصالح السياسية المتميزة وطغيان رأس المال وسلطة الاحتكارات الاستهلاكية.
حتّى غدا الإعلام في غير منطقة من العالم وخصوصاً في الغرب منتوجاً إستهلاكياً قيمته مرتبطة بمصالح القوى المصنعة فبقيت الدعوات المشار إليها آنفاً عبارة عن دفوعات نظرية شكلية التحقت بما يمكن تسميته بالترف النظري الذي راج في الغرب منذ برزو فكرة الاستعمار الجديد أوائل أربعينيات هذا القرن وتركيز الفكر السياسي الغربي على استحضار الحجج والذرائع لتحطيم حرية الإنسان الدينية والثقافية والسياسية.
وبالتزامن مع التطور التقني في الإعلام بدأ الإعلام السياسي
الذي كان ينمو بشكل مطرد ليفرض حضوره في الإعلام العالمي مستفيداً من بروز فكر متطور استطاع بناء دولة متكاملة على حدود الثمانينات. تعاملت مع الإعلام بكل جدية وبنت من خلال نظريتها القرآنية مشروعاً إسلامياً أصيلاً استطاع قطع مرحلة التأسيس بنجاح ليدخل في عصر المنافسة الفكرية العالمية. “عنصراً افتقده الإعلام المعاصر منذ نهضته وهو القيمة الإنسانية والأخلاقية في الفكر السياسي الذي روج له هذا الإعلام”.
ففي العقود التي سبقت. كان الإعلام الإسلامي الحكومي غالباً مجرد إعلام طقوسي. لم يدخل إلى روح الثقافة الإسلامية بل القشر. فلم يأخذ من القرآن إلاّ اللحن ومن أحكامه إلاّ التجويد. وفي عالم الروح كان مجرّد طرح الدوافع والزواجر تجاه عالم الآخرة. يدعو القيّمين على الإعلام الإسلامي إلى اجتراح عشرات الذرائع والحجج للتهرب من “أطروحة غير متلائمة مع روح العصر التقنية والتي انغمس فيها العالم في البراهين العلمية المادية”..
كما كانت عناصر الشعور بالدونية وعدم القدرة على الفعل وردّ الفعل. من العوامل والخصائص الرئيسية لمجمل الخطاب الإعلامي الإسلامي. ما قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران وتأسيس نواة الحكومة الإسلامية على أحكام القرآن ببعديها الأخروي والدنيوي.
وجاءت الثورة الإسلامية المباركة في إيران
لتقلب المفاهيم رأساً على عقب محدثة زلزال الفكر. لقد ألغت منهجية المؤسّس الإمام الخميني المقدس قدس سره “مصطلح الخضوع” من قاموس الشعب. وحطمت قلعة الخوف وأرشدت أمة بكاملها إلى نبع الفطرة الإلهية.
كما يقول الإمام الخامنئي الذي يشير أيضاً إلى أنّ “كلام الإمام المقدس أو بيانه الذي يصدره – قصيراً، كان أو طويلاً، وشريط التسجيل المحتوي على خطاب الإمام، ينتشر في كلّ مكان ويخلق موجة من التفاعل والتحرك الذي يسير فيه فتنفتح له جراءها كلّ الأبواب الموحدة. وتزول الشكوك وتنمحي الحيرة ويوحد طريق الاختلاف. ويكون الجميع قد عرفوا ماذا ينبغي لهم عمله وما الذي يجب قوله”.
كان كلام وبيان الإمام خالياً من الإبهام. وكانت طروحاتها مرآة جلية لتاريخ دين وشعوب. تحمل تراثاً مشرقاً مثقلاً بالوقائع والحوادث الضخمة. منطلقة من جهد آلاف الأجيال تعاقبت على صناعة التاريخ الإسلامي منذ صدر الإسلام.
وحتّى ثورة الإمام المهدي الموعود (أرواحنا له الفداء). التي مهد لها الإمام بإرشاد الناس إلى واجباتهم وتكاليفهم تجاهها…
ومن الثابت تميّز منهجية الإمام الإعلامية التي هدفت إلى تهيئة الأمة تربوياً. للاستفادة من ثورة الإمام الحسين عليه السلام عبر إعلان الشعارات العلمية. التي ركزت على مفهوم الشهادة والجهاد في الإسلام
ومن أهمّ هذه الشعارات “كلّ ما عندنا هو من عاشوراء الإمام الحسين عليه السلام”. وشعار “الدم ينتصر على السيف” و “إن الدم هو المنتصر على السيف”. فكانت ثقافة الخضوع لله وحده عبر مفهوم الشهادة. الجهد والصبر أرقى طروحات إعلام المواجهة والارتباط بالغيب وبالآخرة عملاً وفكراً ومنهجاً..
وقد أطلق الإمام الخميني قدس سره جملة مفردات قرآنية
من إسارها اللفظي ليحييها في روح الأمة عنواناً لسيرها إلى الله. كالمفردات التالية: “استكبار“. “مستضعفون“. “شيطان“. “طاغوت“. “باطل“. “حق“. “خليفة“. “وسواس“. “قوة“. “عزة“. “قوي“. “عزيز“. “جهاد“. “رحمة“. “صبر” وعشرات المفردات الأخرى. كما أحيا توصيات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته في الحياة السياسية والعسكرية والروحية والاجتماعية…
ولقد أثبت الإمام أنّ الإعلام الإسلامي هو إعلام شمولي يتعاطى مع أبناء الأمة كافة باختلاف لغاتهم ومستوياتهم الفكرية، ونقل الإسلام من رفوف الانتظار والتنظير إلى المجال العملي باعتبار هذا الإعلام هو إعلام هادف وليس سطحياً أو طقوسياً، فالكلمة التي يقولها الإسلام هي تعبير وانعكاس لفعل أو مقدّمة فعل وهذه الكلمة في المستوى المرحلي هي الكلمة التي تتعاطى مع المستقبل بالأهداف نفسها التي انطلقت منها قبل مئات السنين على لسان رسول لله وأهل بيته الأطهار عليه السلام…
لقد أزال الإمام الحجب عن سلسلة مفاهيم أساسية كانت موضع نقاش في دائرة الثقافة الإسلامية منذ بداية عصر الغيبة الكبرى:
1- أزاح الستار عن انزواء العلماء
في زوايا المسد والحوزة وعدم التصدي لشؤون الأمة وشجونها بما في ذلك إدارتها وتحكيم شرع الله فيها “طرح مبدأ ولاية الفقيه كضرورة عقائدية”.
2- استنهض الشخصية الإسلامية المتكاملة
مع أمتها باعتبارها عنصراً إسلامياً عظيماً يدور الكون حولها وطّوّع لخدمتها طالما التزمت جادة التكاليف الإلهية واجتنبت النواهي والمكروهات ضمن فعالية التغيير.
3- أطلق شعلة الحياة في عملية التمهيد لظهور صاحب العصر والزمان عجل الله فرجه الشريف
ناسفاً من الأذهان كلّ ما علق فيها من رواسب ثقافية ونفسية ومفنداً بحيوية ورأي ثاقب بأسلوب نقدي آراس التيارات الفكرية التي تعاطت بسلبية مع هذه العملية، وكلنا يعلم مدى التركيز الذي سلطه الإمام على الأسس والقيم والمبادئ التي ينبغي أن تبنى عليها دولة الإسلام ي عصر الغيبة، انطلاقاً من تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران كدولة صاحب الزمان عجل الله فرجه الشريف ممهدة لظهوره بكل مقوماتها…
4- طرح الإسلام المحمدي كثقل فكري
يمتلك عوامل السبق في صراع التيارات الفكرية المعاصرة انطلاقاً من إحياء روح الإسلام (قرآنه، سيرة نبيه وأهل بيته، تجارب وخبرات الديانات السماوية عبر التاريخ) وتميز طرحه للحكومة الإسلامية، كحكومة إلهية دينية تقدم الحل لما عجزت عنه كلّ تيارات الفكر السياسي المعاصر التي انطلقت من أسس وضعية أو من تفسيرات واجتهادات ذاتية لطروحات الدين عبر التاريخ…
5- حرك الفقه الإسلامي
مصدر السلطة المرتبطة بالمنشأ الأقدس وهو الله ليكون الرقيب المرشد والمتصدّي لكلّ شؤون الحياة وأعطاه دوره الإلهي المنصوص عليه كصمام أمان من انحراف البشر العقائدي والسلوكي بشقيه العملي والنظري. ومن مآثر الإمام المقدس تصديه الحازم لأخطر الانحرافات الفكرية في عصرنا الحديث التي كانت قضية المرتد سلمان رشدي فاتحتها التي هدف فيها مجموعة المتربصين بالإسلام المس بمقدسات المسلمين فكانت فتوى الإمام بقتل المرتد رغم ردود الفعل العالمية والإسلامية المستهجنة إحدى مميزات العظمة في شخصه الكريم طالما أنّ التجربة أثبتت أنّ محاولات كهذه استطاعت على مدار التاريخ تحريف الديانات اليهودية والمسيحية وهذا كان منطلقاً من تقديس الإمام المقدس لفضيلة الصدق في الموقف باعتباره واحدة من المسؤوليات الرئيسية التي يجب أن يتحلّى بها كلّ مسؤول أو أيّ فرد من أفراد الأمّة لأنّ الكلمة التي تقال والموقف الذي يتخذ هو شاهد في محضر الله سبحانه ولا شيء يعادل أي سقطة في هذا المحضر العظيم…
6- ترك إرثاً ثقافياً هائلاً
قال عنه الإمام الخامنئي المقدس: “إن مجموعة بيانات الإمام هي صحيفة تورثنا.. مشرعة بوجه التاريخ” وأضاف يخاطب الأمة: “ها هي المرآت الصافية المعبرة عن كلّ تطلعاتكم وأهدافكم وآمالكم ومطالبكم، أمام أعينكم فاعتبروا النظر في هذه المرآة النقية فريضة”.
ثمّة عناصر وخصائص هائلة في شخصية الإمام العظيم لا يمكن حصرها في بضع صفحات بل بضع مجلدات لكن أهم ميزة في الإمام كانت الجانب السلكي فيه وهو الوجه الداخلي الخاص الذي لم يطلع عليه إلاّ الله فقد كان الإمام عبداً لله سلك صراط العبودية بصدق فسطعت من شمس ذاته هذه الأنوار وتلك التجليات فكانت علاقته مع الله وعرفانه صورة ذلك الإعلام الصامت الذي تمثل بخشوعه واستقامته وثباته وارتباطه الروحي الشديد بأهل بيت العصمة فاستحقّ ببركاتهم خالص القبول من الباري عزّ وجل، وتمثّل بمشاهد العشق المحرقة التي شاهدها العالم أجمع إبان تشييعه وإبان ذكرى التحاقه بالرفيق الأعلى بعد سبع سنوات، لقد كان الإمام شخصية إعلامية جامعة لله تحقّق فيها مصادق حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب “من نصّب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره. وليكن تهذيبه بسيرته قبل تهذيبه بلسانه ومعلم نفسه ومهذبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومهذبهم”.
إنّ الثقافة الإسلامية لا تتكامل بدون وجود هكذا شخصية
تجمع الصفات الحميدة والشخصية القوية الهادفة والمؤثرة التي استطاعت مجابهة الحاضر بكلّ رواسبه ومشاكله ومساوئه وربطه بالماضي عبر التأسّي بالأسوة الحسنة عليه السلام واستلهام العبر منها واستقراء تجاربها
وهذا ما كان يهدف إليه الإمام حتماً عندما أشار إلى كلّ المواصفات السالفة في الإشارة إلى خصوصيات خليفته المفدى بشخصه كوارث لهذا الخط الذي نفتخر بتسميته “خط الإمام”، وللتاريخ فقط نعرضها للتأسي والاعتبار، فيقول الإمام المقدس: “إذا كنتم تظنون أنكم إذا بحثتم في جميع الرؤساء والسلاطين الموجودين في العالم عن شخص مثل السيد الخامنئي فستعثرون عليه، فإنّكم واهمون
إذ لا تجدون شخصاً مثله ملتزماً بالإسلام وخدوماً ونيته القلبية أن يكون في خدمة الشعب. إنّني أعرفه منذ سنوات طويلة، وقد التحق بهذه النهضة منذ بدايتها وكان يذهب إلى المدن الأخرى لإيصال الرسائل
وبعد أن بلغت النهضة أوجها كان حاضراً في وقائع الأحداث واستمرّ في ذلك حتّى الآن، وإنّه لنعمة ممنوحة لنا من الله، لقد منّ الله تبارك وتعالى علينا إذ هيّأ الرأي العام لانتخاب رئيس للجمهورية ملتزم ومناضل، وفي خط الإسلام المستقيم وعالم بالدين والسياسة، والمأمول أن يتمّ حل المشاكل الواحدة تلو الأخرى وتطبيق الأحكام الإسلامية المقدسة في البلاد بالشكل المطلوب جرّاء حسن تدبيره”.
لقد عرضنا بعض ملامح التأسيس في عصر الإمام الخميني قدس سره ويبقى أمامنا حلقة ثانية سوف نركّز فيها على ملامح الاستمرارية والتطوير في عصر الإمام الخامنئي (دام ظله).