الشيخ يوسف عاصي
﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾. ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ً﴾. لقاء الله أو “الكمال الإنساني” قمة يسعى للوصول إليها المؤمنون الزاهدون المتعبدون العارفون بالله فتراهم يبحثون عن طرق السير والسلوك وعن أسباب التقرب إليه تعالى ويجدون في المسير إليه سعي العاشق المتلهف إلى لقاء حبيبه. ومهما تعددت السبل إلى الله. وهي متعددة بعدد أنفاس الخلائق تبقى المعرفة الشعاع الذي يستضاء بنوره والدليل الذي يتهدى به والبوصلة التي تصوب المسار. فعن أمير المؤمنين عليه السلام: “فالسالك على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا تزيده سرعة المشي إلا بعداً”. فبين السير والسلوك عند أهل العرفان والمعرفة علاقة جدلية يكفينا أحياناً لبيانها وإظهار أهميتها وموقعها أن نشرح المقدمات والمصطلحات حرصاً على حصر البحث وعدم التشتت وسوف تظهر في الطيات النتائج فما هو المقصود بالسير والسلوك؟ وما هو المقصود بالمعرفة؟.
* السير والسلوك:
يقسم العرفان عند أهل الفن إلى قسمين:
العرفان النظري:
ويهدف إلى تفسير الوجود ومعرفة الله والإنسان والعالم.
العرفان العملي: وهو المعبر عنه بالسير والسلوك وهو حركة بين المبدأ والمنتهي عبر رضايات شرعية ومجاهدة خاصة مع النفس.
والمراد بالمبدأ: بيت النفس المظلم حيث يسعى السالك إلى الله لتحطيم أصنام كعبة نفسه وأنانيته والسفر إلى الله تعالى عبر طي المنازل.
والمراد بالمنتهي: أو المقصد وهو الحق المقدس جل وعلا. وبلوغ التوحيد بارقى معانيه الذي يعني أن الوجود الحقيقي منحصر به وما عداه مظاهر وهي مرتبة لا يصل إليها بإعمال الفكر والنظر فحسب بل بما ينكشف للقلب عبر المجاهدة والسلوك الخاص وحينئذ يصبح العارف مصداقاً لمن يسمع بسمع الحق ويبصر بعين الحق ويبطش بيد قدرة الحق وينطق بلسان الحق ويرى الحق ولا يرى غيره.
يقول الإمام الخميني قدس سره في كتاب “الأربعون حديثاً، ص 526”: “اعلم أن للسالك إلى الله والمهاجر إلى الله والمهاجر من بيت النفس المظلم إلى الكعبة الحقيقية سفراً روحانياً وسلوكاً عرفانياً حيث يكون مبدأ هذه الرحلة بيت النفس والأنانية”. إلى أن يقول: “ومنازل هذه الرحلة المراتب الآفاقية والأنفسية ونهاية هذا السفر الذات الحق المقدسة”. والمراد بالمنازل هي المراحل التي ينبغي للعارف السالك أن يطويها بالمجاهدة والعبادة والرياضات الخاصة منزلة بعد أخرى. وبالتسلسل اللازم فلا يصح التعدي إلى اللاحقة قبل التمكن من السابقة. ووسيلته في كل ذلك الرياضة والمجاهدة برفقة إنسان كامل خبير عارف يسمى عند أهل العرفان بـ”الخضر” أو “طائر القدس”. ومهما اختلفوا في تقسيم هذه المراحل وتعداد هذه الأسفار. لكنهم اتفقوا على أن نتيجة ذلك هو بلوغ عالم الشهود والانكشاف كما يعبر صدر المتألهين في كتاب “الأسفار” المجاهدة بذرة المكاشفة.
* المعرفة:
أما المعرفة عند الحكماء فهي معرفة حصولية ذهنية وسيلتها البرهان والاستدلال.. والكمال فيها حصول العلم والفهم والإدراك. أما عن العرفاء فهي معرفة حضورية شهودية قلبية وسيلتها السلوك الخاص والرياضات والمجاهدة لتهذيب النفس وتصفية مرآة القلب.. والكمال فيها الوصول للحقائق عبر الانكشاف والشهود. فالمعرفة هي أساس عملية السلوك وبدونها يكون السالك سائراً خبط عشواء يتيه في بحر الأوهام ويبقى أسيراً للنفس والتخيلات ولا يرى إلا السراب. وهناك تأثير متبادل بين المعرفة من جهة والسيرة والسلوك من جهة أخرى.
* دور المعرفة في السلوك:
يمكننا بيان هذه العلاقة وهذا الدور بنحوين:
الأول: يحتاج السلوك إلى مجاهدة للنفس بإخلاص والإخلاص لا يتم ولا يتحقق بلا التوحيد فغير الموحد كيف يخلص لله الواحد؟.. والتوحيد لا يتم بلا تصديق فغير المصدق الموقن بالله كيف يوحده؟.. والتصديق لا يتم إلا بالمعرفة ولا يتحقق إلا بها. فالمعرفة أساس التصديق واليقين والتصديق أساس التوحيد والتوحيد أساس الإخلاص والإخلاص أساس السلوك فالمعرفة أساس السلوك ومَبدؤه ومَنشؤه. فعن أمير المؤمنين عليه السلام: “أول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده الإخلاص له ونفي الصفات عنه”.
الثاني: يحتاج السلوك إلى مجاهدة للنفس استناداً إلى طريقة شرعية فالسائر إلى الله ينبغي أن يسلك طريقاً يرضى عنه الله ويرتضيه فلا بد من التعرف على شرع الله بالنهج الصحيح وهذا كله يتوقف على معرفة الخالق المبدع جل وعلا.. فعن أمير المؤمنين عليه السلام: “السالك على غير هدى كالسائر على غير الطريق…”.
* دور السلوك في المعرفة:
وللعمل من جهته تأثير على المعرفة تثبيتاً وازدياداً تشير إليه الآيات الشريفة ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا …﴾، والأحاديث المباركة فعن الإمام الصادق عليه السلام: “لا يثبت الإيمان إلا بالعمل…”. فالمعرفة بالله والرسول والأئمة صلى الله عليه وآله الأطهار والشريعة المقدسة تمكن القاصد إلى الله من وضع قدمه الأولى في المحل الصحيح في سفره إلى الحق جل وعلا فيدخل المنزل الأول وبالمجاهدة والرياضة الشرعية يتجاوزه وتولّد فيه هذه المرحلة من المجاهدة معرفة كشفية شهودية تكون محركاً ودافعاً للاستمرار في المنزل الثاني وهكذا تماماً كالذي يحمل السراج في الطريق المظلم فأن تجاوز القطعة الأولى من الطريق يتيح له انكشاف القطعة اللاحقة وتكون سبباً لتجاوزها وهكذا فالمعرفة أساس العمل. وهي تؤثر فيه ابتداء واستمراراً وهو يؤثر فيها هدى ووضوحاً وازدياداً.
* أبرز المعارف المطلوبة:
إن معرفة الخالق وصفاته وما يرافق ذلك من أبحاث تستلزم معارف أساسية. يجب على السالك أن يتزود بها ويعتمد عليها في هذا السفر إلى الله تعالى منها:
1- معرفة النبوة ومستلزماتها:
2- معرفة النفس وأقسامها وأسباب سعادتها وشقائها.
أما الأولى:
فمعرفة الله تستلزم التعرف على النبوة كواسطة في تبليغ شرع الله وسننه في الحياة. ضمن رسالة محددة هادفة إلى تحقيق أمرين:
1- العبادة.. ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾. وهي تتطلب معرفة المعبود وطريقة العبادة.. وهي وسيلة ضرورية في السلوك إلى الله تعالى فلا سلوك بلا عبادة وخضوع. فالسير والسلوك يجب أن يستند إلى العبادة كما أرادها المولى عزّ وجل ولست هنا بصدد بيان المنهج اللازم والمناسب في هذا المقام ولكن يحسن الاشارة إلى أن السير والسلوك ينبغي أن يكون حسب التوجيه الذي يريده صاحب الدعوة الذي دعانا إليه فالعبد لا يسير إلا في الطريق الذي عينه له مولاه. ولا يدخل إلا من الباب الذي حدده له سيده والرسول صلى الله عليه وآله يقول: “أنا مدينة العلم وعلي بابها”. فبدون أهل البيت عليهم السلام ومحبتهم يكون الإسلام بلا روح وتكون الشريعة كماً من الطقوس والعبادات المتفرقة وهذا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: “لولاك يا علي لم يعرف المؤمنون بعدي”.
2- مكارم الأخلاق.. “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. وهي تخلص المرء من الإفراط والتفريط وتضعه على جادة الصراط المستقيم. الذي نطلب الهداية إليه يومياً في الصلوات الخمس. ولا سبيل للوصول إليه إلا بالأخلاق. فالأخلاق عملية دقيقة وشاقة يقف المرء بها على الخط المستقيم وهو اقصر الطريق ومن هنا نفهم معنى الدعاء “… وأن الراحل إليك قريب المسافة” لأنه يسلك الصراط المستقيم. فإذا عرف السالك مكارم الأخلاق وتحصن بها وسار بتوازن واعتدال أمكنه العبور على الخط المستقيم في سفر المنازل إلى الله تعالى.
أما الثانية:
معرفة الله تستلزم معرفة النفس وهي معرفة أقرت بقيمتها كل الديانات والفرق معرفة النفس انفع المعارف “أفضل المعرفة معرفة الإنسان نفسه”. ولها فوائد كثيرة في مجال معرفة الله جل وعلا وفي مجال التهذيب والمجاهدة.. فعن علي عليه السلام: “من عرف نفسه فقد عرف ربه”. عجبت لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربه”، وعنه أيضاً “من عرف نفسه جاهدها”، “نال الفوز الأكبر من ظفر بمعرفة نفسه”. يقول الشهيد مطهري رضي الله عنه في تعليقه على آية ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾: “لعل تقدم القسم بالنفس على ذكر خالق النفس إشارة إلى أن معرفة النفس وأمراضها وقواها ونقاط ضعفها وأسباب سعادتها وشقائها شاهد على فقرها إلى ربها وحاجتها إليه فتتعلق به وتنصرف عن كل شيء سواه وتتعرف عليه”.
وهكذا لا سبيل للسالك إلى الله في كل مراحل السلوك عن التخلي عن المعرفة سواء معرفة الخالق أو معرفة الرسول والرسالة أو معرفة النفس أو معرفة المنهج.