الحسين أحمد كريمو
نظرية الإصطفاء الإلهي في القرآن الحكيم
البحث في القرآن الحكيم له جماليته، وبهاءه، ونوره، وحضوره، في العقل، والقلب، والروح، والجسد، لأن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى وفضله على الكلام كفضل الله على خلقه. ولذا أمرنا الباري تعالى بالتدبُّر والتفكُّر والتَّعقل والتأمُّل في القرآن الحكيم عند تلاوته، والوقوف عند آياته، لأنها خزائن العلم والفكر، كما أنها خزائن الهُدى والرَّحمة.
ومن أولى النَّظريات التي أهملها العلماء بالبحث والدَّرس؛ هي نظرية الإصطفاء الإلهي التي وردت في القرآن الحكيم في سياقات مميَّزة، لأنَّها كانت تؤسِّس لنظرية علمية، وفكرية، وإيمانية، بكل معانيها. وتفاصيلها. ومبانيها، وهي الضَّابطة العامَّة، والأساسية لاختيار كل الأنبياء. واصطفاء كل الرُّسل. واجتباء كل الأولياء، فهي تعطينا الخطوط الرئيسية التي يجب أن نتقيَّدَ بها بنظرتنا، وبحثنا، وحديثنا عن الأنبياء الكرام، والرُّسُل العظام. فتُعطي لنا الرُّؤية الصَّحيحة التي إذا فهمناها كانت نظرتنا، ونظرياتنا المختلفة عن النبوة والأنبياء صحيحة. وضمن الإطار الرَّباني العام الذي أراده الله سبحانه في كتابه وتشريعه وقرآنه الذي لا يأتيه الباطل من كل نواحيه وجوانبه.
والله سبحانه وتعالى اصطفى أمرين اثنين متكاملين ولا يمكن الفصل بينهما وهما:
1-اصطفى الدِّين؛ ليكون هو الحاكم في الأرض، وذلك عندما يقول: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (البقرة: 132)، وذلك لأنه يقول سبحانه: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) (آل عمران: 19)، فالدِّين الإلهي واحد في الأصول، ولكنه متجدِّد ومتطوِّر في الفروع والأحكام ليتلاءم مع الزمان، والمكان، والظروف المختلفة، إلا أنه في أصله وجوهره فهو دين التوحيد، والنبوة، والولاية، والبعث والعدل، فما من دين أنزله الله تعالى إلى البشرية إلا بهذه الأصول، وما على الإنسان إلا أن يُسلِّم بها ويؤمن مخلِصاً ومعتقداً بها وهو جوهر الدِّين الذي سمَّاه أبونا إبراهيم الخليل (ع) بذلك، قال تعالى: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) (الحج: 78) لأنه كان حنيفاً مائلاً عن كل الطُّرق، والعقائد، والأديان إلى دين الله وتوحيده، (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران: 67)
2-اصطفى الأنبياء والمرسلين، حيث يقول: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران: 34)، وهذا طبيعي ويستلزمه العقل والمنطق السَّليم فالذي يصطفي شيء لا بدَّ له أن يصطفي ملازماته وتوابعه فالله الذي اصطفى الدِّين والإسلام لا يمكن أن يتركه بين أيدي غير أمينة بل يصطفي لتطبيقه. وتبليغه. وإيصاله. وتفسيره. وتأويله أرضى الناس والخلق إليه. فاصطفى أنبياءه ورسله. وعصمهم وطهَّرهم من الشيطان الرَّجيم لأنه العدو اللَّدود لبني آدم جميعاً.
فلدينا في القرآن الحكيم نظرية متكاملة وهي من أوائل النظريات في الاجتماع والعلوم الإنسانية فضلاً عن أنها نظرية حضارية وكاملة لكل الأديان والأفكار والعقائد التي لا بدَّ من وجودها في البشر. لأن الدِّين أمر فطري ولا ينفك عن كل مولود أو إنسان سويّ، إلا أن تتشوَّه فطرته الأولى بما يكتسبه من أبويه – إن كان له أبوان – أو مجتمعه، والمدرسة، والشارع. وغير ذلك من المؤثِّرات الكثيرة والمختلفة على الإنسان. قال (ص): (كُلُّ مَوْلُودٍ يولَدُ عَلَى اَلْفِطْرَةِ يَعْنِي اَلْمَعْرِفَةَ بِأَنَّ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَالِقُهُ)، و(حَتَّى يَكُونَ أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ. أَوْ ينَصِّرَانِهِ، أَوْ يمَجِّسَانِهِ). فالدِّين مغروس في طينة الإنسان. ولا يمكن أن ينفصل عنه إلا بمؤثِّرات خارجية فتشوِّه وتغيِّر تلك الفطرة التي خلق عليها.
ونظرية الإصطفاء الإلهي هي أساس النَّظريات الكليَّة التي تضبط الدِّين المصطفى. ووسائل التبليغ. والتوصيل، والتطبيق له، وهم الأنبياء، والرُّسل، والأوصياء. والأولياء الذين اصطفاهم الله أيضاً من خلقه، ورضيهم لنفسه ودينه بعد أن عصمهم وحصَّنهم من كل المؤثِّرات الداخلية كالنزعات. والشهوات. والميول البشرية. والخارجية كشياطين الإنس والجن. فجاءت النَّظرية القرآنية كاملة في الشقِّ النَّظري العلمي. والشقِّ التطبيقي العملي.
فلماذا لا تدرس الأمة الإسلامية هذه النظرية، ويبحثها العلماء بكل تفاصيلها ليقدِّموا للناس ولأجيال الأمة نظرية قرآنية رائعة وراقية تعطي الخطوط الأساسية لهذه المسألة الهامة والضرورية. والتي تشمل الدِّين المصطفى. والأنبياء والأوصياء الذين اصطفاهم الله ليكونوا وسيلته في خلقه؟