هل يلزم من ذلك أن يكون النصر حليف المؤمنين دائماً؟ وهل يلزم أن تكون الإمدادات الغيبية إلى جانب هؤلاء المؤمنين بشكل مطلق (في كل زمان ومكان وتحت أي ظرف وفي أي حال) أي من دون أي قيد أو شرط؟ وهل بمجرّد أن يتوجّه المؤمنون إلى الحرب يلزم أن ينزل النصر والمدد الإلهي عليهم؟
فلو أجبنا على هذا السؤال: بنعم، فإننا لن نستطيع توجيه الهزائم التي حصلت للمؤمنين في بعض المقاطع التاريخية، وسيكون هذا مورد نقض على جوابنا المثبت!
و لو أجبنا بلا، فسوف يتعارض هذا الجواب السلبي مع الآيات التي أوردناها والتي تحدّثت بشكل قاطع عن وعد الله للمؤمنين بالنصر!
والجواب الصحيح لحلّ هذا التعارض يكمن في فهم سر الحياة الدنيا، وأنه يتقوّم بكون الحياة الدنيا محلاً للابتلاء والاختبار. فالله تعالى خلق الإنسان وأعطاه الحرية والاختيار، وبمقتضى هذه الحرية يختار الإنسان خطّ مسيره في هذه الدّنيا، وفي نفس الوقت أرسل الله تعالى الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين لتعليم البشر على الخير والصّلاح، وكيفيّة الوصول إلى الكمال الإنساني الذي لا يكون إلا عن طريق طاعةِ الله والعبودية له.
والطاعة والعبودية ليس معناهما إلا التسليم المطلق والكامل لله تعالى وعدم الخوف من الشدائد والابتلاءات، والعمل بالأوامر الإلهية وترك نواهيه في كل الظروف.
إذاً، فهدف الإنسان الحقيقي في هذه الدنيا هو كسب الرضا الإلهي. ومن الطبيعي أنه كلما كان سير الإنسان لكسب رضا الحق تعالى يستلزم سعياً أكثر ومشقة أكبر، كان تأثير ذلك في كماله أعمق، وإنجازه للعمل أكثر توفيقاً، وسيثمر سيره وسلوكه هذا – برغم المشقات – ثماراً أزكى، ويعطي نتائج أفضل تظل في تزايد ونمو مستمر.
والرواية المعروفة “أفضل الأعمال أحمزها”[1] عن المعصومين عليهم السلام، تشير إلى هذه الحقيقة.
أما إذا كان بناؤنا على أن المؤمنين يعلمون مسبقاً بأنّهم سوف يفوزون وينتصرون في كل الحروب على الأعداء فلا حاجة للجهاد والشهادة ولا معنى أصلاً للابتلاء والامتحان، بل لن يكون لعناوين التضحية والفداء، والإقدام والإيثار ذلك التأثير العجيب وتلك القيمة السامية، خصوصاً لو ترافقت مع ظروف مرفهة نسبياً وأوضاع مستقرة نوعاً ما، لا يسودها ذاك القلق الكبير والاضطراب العميق.
إن الذي يعلم مسبقاً أنه منتصر في الحرب لا محالة مئة في المئة، فإن اندفاعه للحرب لن يكون باعثاً للقلق الزائد، ولن تزعجه مواجهة أي مشاكل أساسية، وعليه فبقدر انخفاض نسبة المشاكل والشدائد سوف تنخفض في المقابل درجة التكامل.
ومن هنا نستطيع أن ننظر إلى الصورة المعاكسة، وهي الحال التي يكون فيها المجاهد المؤمن وبقدراتٍ مادية متواضعة، غير واثقٍ من الفوز الظاهري، بل يحتمل الخسارة، فإنه وبسبب ارتباطه بالله، يقدم على المعركة باذلاً مهجته وكل ما يملك لأداء التكليف الالهي.
إن مثل هذه الظروف سوف ترتفع بهذا المؤمن المجاهد لنيل أعلى المنازل وأرقى المراتب في جوار الحضرة الإلهية، وسوف يطوي مدارج السلوك المعنوي بسرعة كبيرة، ولعل سرّ عظمة كربلاء وشهداء كربلاء يكمن في هذا الأمر.
إن الأصل في كل أمور وشؤون الحياة هو بأن تجري الوقائع والأحداث طبق قانون العلل والأسباب وضمن مبدأ الاختيار والامتحان ولا خروج عن هذه القاعدة في الحياة الدنيا.
وفي نفس الوقت، ولأن المطلوب الحقيقي هو تحقيق الخير والوصول إلى الكمال. وقد تعلقت الإرادة التكوينية الإلهية بانتصار الحق، فقد جاء التحذير الإلهي للمؤمنين أن لا يتكلوا على أنفسهم وقدراتهم بشكل مستقل في حربهم ضد الأعداء.
نعم، إن الله سبحانه وتعالى قد يتدّخل في الموارد اللازمة وبواسطة سلسلة من العوامل الباطنية والروحية، أو العوامل الظاهرية والعلنية الأعم أيضاً من الطبيعية وغير الطبيعية، فيجعلها عز وجلّ في خدمة المجاهدين ومُدبِّرة لأمورهم ليصبح السير الكلي للأمور في النهاية لصالح انتصار الحق وهزيمة الباطل.
الربيّون عطاء حتى الشهادة، جمعية المعارف الإسلاميّة الثقافية
[1] بحار الأنوار: ج67، ص191.