الشيخ د. أكرم بركات
روى عليّ بن ميثم عن أبيه: رأت حميدة أمّ الإمام الكاظم عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام يقول لها: “يا حميدة، هبي (نجمة) لابنك موسى عليه السلام؛ فإنّه سيولد له منها خير أهل الأرض له، فوهبتها له… فسمّاها الإمام عليه السلام الطاهرة”(1).
الولادة الميمونة
في الحادي عشر من ذي القعدة عام 148هـ أو 153 هـ، أولدت الطاهرةُ عليَّ بن موسى الرضا عليه السلام، فأذَّن -أبوه- في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، ودعا بماء الفرات، فحنّكه به، ثمّ ردّه إلى أمّه قائلاً: “خذيه؛ فإنّه بقيّة الله تعالى في أرضه”(2).
إشارة الكاظم عليه السلام إلى إمامته
ورد أنّ الإمام موسى بن جعفر عليه السلام قال لأولاده: “هذا أخوكم عليّ بن موسى عليه السلام، عالِم آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فاسألوه عن أديانكم، واحفظوا ما يقول لكم؛ فإنّي سمعت أبي جعفر بن محمّد عليه السلام غير مرّة يقول لي: إنّ عالم آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لفي صلبك، وليتني أدركته؛ فإنّه سَميُّ أمير المؤمنين عليّ عليه السلام”(3).
كما كان الإمام الكاظم عليه السلام يرشد أصحابه إلى إمامته، فعن نصر بن قابوس قال: كنت عند أبي الحسن عليه السلام في منزله، فأخذ بيدي فوقفني على بيت من الدار، فدفع الباب فإذا عليّ ابنه عليه السلام وفي يده كتاب ينظر فيه، فقال لي: “يا نصر، تعرف هذا؟”. قلت: نعم، هذا عليّ ابنك، قال: “يا نصر، أتدري ما هذا الكتاب الذي ينظر فيه؟”. قلت: لا، قال: “هذا الجفر الذي لا ينظر فيه إلّا نبيّ أو وصيّ”(4).
في عصر هارون والأمين
عاش الإمام الرضا عليه السلام بعد شهادة أبيه الكاظم عليه السلام نحو عشرين عاماً، عشرة منها في عهد هارون، ونحو خمس سنوات في عهد الأمين الذي كان مشغولاً بنزاعه مع أخيه المأمون، ممّا سمح للإمام بالتحرّك بشكل أفضل في أداء دوره الرساليّ.
وممّا يعبِّر عن المدى الواسع لحركة الإمام عليه السلام في نشر الرسالة، ما قاله محمّد بن عيسى اليقطينيّ: “جمعت من مسائل أبي الحسن الرضا عليه السلام ممّا سئل عنه عليه السلام وأجاب فيه، ثمانية عشر ألف مسألة”(5).
الإمام الرضا عليه السلام والثورات العلويّة
في عهد الإمام الرضا عليه السلام، قامت ثورات عديدة قادتها شخصيّات من أحفاد الإمام عليّ عليه السلام، منها ثورة محمّد بن إبراهيم، المعروف بابن طباطبا العلويّ، الذي استطاع لمدّة أن يهزم جيوشاً عدّة أرسلها العبّاسيّون للقضاء على ثورته، التي انطلقت من المدينة إلى أهل الكوفة، الذين التفّوا حوله وناصروه، ومنها ثورة إبراهيم بن موسى بن جعفر في اليمن، ومنها ثورة الحسين بن الحسن الأفطس في مكّة، ومنها ثورة زيد بن موسى بن جعفر المسمّى بزيد النار في البصرة.
ولاية العهد
كانت هذه الثورات محفِّزة للمأمون لكي يعمل على اتّجاه جديد هو عرض ولاية العهد للإمام الرضا عليه السلام بلغة القوّة، والتهديد بالقتل بعدما رفض الإمام عليه السلام ذلك، قائلاً له: “إنّ عمر بن الخطاب جعل الشورى في ستّة، أحدهم جدّك أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، وشرط فيمن خالف أن يضرب عنقه، ولا بدّ لك من قَبولك ما أريده منك، فإنّي لا أجد محيصاً عنه”(6).
اتّساع القواعد الشعبيّة
يتميّز عهد الإمام الرضا عليه السلام بالشعبيّة الواسعة والتعاطف الجماهيريّ معه، وهذا ما يمكن تسليط الضوء عليه من خلال:
1 – حديث السلسلة الذهبيّة: لمّا وصل الإمام الرضا عليه السلام في رحلته الخراسانيّة إلى نيسابور، أوقفه الإمامان الحافظان أبو زرعة الرازيّ ومحمّد بن أسلم الطوسيّ، ومعهما خلائق لا يُحصَون من طلبة العلم وأهل الأحاديث وأهل الرواية والدراية، فقالا: أيّها السيّد الجليل، ابن السادة الأئمّة، بحقّ آبائك الأطهرين وأسلافك الأكرمين، إلاّ ما أريتنا وجهك الميمون المبارك، ورويتَ لنا حديثاً عن آبائك عن جدّك محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نذكرك به.
فاستوقف عليه السلام البغلة، وأمر غلمانه بكشف المظلّة عن القبّة، وأقرّ عيون تلك الخلائق برؤية طلعته المباركة، فكانت له ذؤابتان على عاتقه، والناس كلّهم قيام على طبقاتهم ينظرون إليه، وهم بين صارخ وباكٍ ومتمرّغ في التراب ومقبِّل لحافر بغلته.
فقال عليّ بن موسى الرضا عليه السلام: “حدّثني أبي موسى الكاظم، عن أبيه جعفر الصادق، عن أبيه محمّد الباقر، عن أبيه عليّ زين العابدين، عن أبيه الحسين شهيد كربلاء، عن أبيه عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: حدّثني حبيبي وقرّة عيني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: حدّثني جبرائيل قال: سمعت ربّ العزّة سبحانه وتعالى يقول: كلمة لا إله إلاّ الله حصني، فمن قالها دخل حصني، ومَن دخل حصني أمن [من] عذابي”. ثمّ أرخى الستر على القبّة وسار. فعدّوا أهل المحابر والدويّ الذين كانوا يكتبون، فأنافوا على عشرين ألفاً(7).
قال أبو نعيم في حلية الأولياء: هذا حديث ثابت مشهور لهذا الإسناد من رواية الطاهرين عن آبائهم الطيّبين… وكان بعض سلفنا من المحدّثين إذا روى هذا الإسناد قال: “لو قُرئ هذا الإسناد على مجنون لأفاق”(8).
2 – خروج الإمام عليه السلام لصلاة العيد: على الرغم من أنّ الإمام عليه السلام اشترط على المأمون أن لا يشترك معه في أيّ شيء يتعلّق بالحكم، فقد أصرّ المأمون في بداية ولاية العهد على الإمام الرضا عليه السلام أن يصلّي صلاة العيد بالناس، فرفض الإمام عليه السلام وأصرّ المأمون، وبعد إلحاح قبل الإمام عليه السلام مشترطاً على المأمون أن يخرج إلى الصلاة كما كان يخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام عليّ بن أبي طالب، فقال له المأمون: “اخرج كيف شئت”، وأُمِر القوّاد والحجّاب والناس أن يُبكروا إلى باب الرضا عليه السلام. ومضى الراوي يقول: “فقعد الناس لأبي الحسن في الطرقات والسطوح، واجتمع النساء والصبيان ينتظرون خروجه، ووقف الجند والقادة على بابه حتّى طلعت الشمس، فاغتسل أبو الحسن الرضا عليه السلام، ولبس ثيابه، وتعمّم بعمامة بيضاء من قطن، فألقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين كتفَيه، ومسّ شيئاً من الطيب، وأخذ بيده عكّازاً، وقال لمواليه وخاصّته: “افعلوا مثل ما فعلت”، فخرجوا بين يدَيه وهو حافٍ قد شمّر سراويله إلى نصف الساق، وعليه ثياب مشمّرة ومشى قليلاً، ثمّ رفع رأسه إلى السماء وكبّر، فكبّر معه مواليه، ومشى حتّى وقف على الباب، فلمّا رآه القوّاد والجند على تلك الصورة، سقطوا كلّهم عن الدوابّ إلى الأرض، وكان أحسنهم حالاً من كان معه سكّين فقطع به ربطة حذائه لينزعه من رجله ويمشي حافياً، ثمّ كبّر الرضا عليه السلام على الباب الأكبر وكبّر الناس معه، وارتفعت أصوات الناس في مرو بالبكاء والتكبير من جميع الجهات، وكان الإمام عليه السلام كلّما مشى خطوات وقف وكبّر، فكبّر الناس معه حتّى ضجّت المدينة بأصوات المكبّرين، وخرج الناس من منازلهم وازدحموا في الشوارع بشكل لم تعهد له المدينة مثيلاً كما تصف ذلك الروايات التي تحدّثت عن خروجه”(9).
لمّا أُخبر المأمون بحال الناس في سير الإمام الرضا عليه السلام إلى الصلاة أرسل إليه، “لقد كلّفناك شططاً، ولسنا نحبّ أن تلحقك مشقّة، فارجع، وليصلِّ بالناس من كان يصلِّي بهم عن رسمه”(10).
الخصال.. تجمّعن فيه
بما أنّ القلب ينجذب بفطرته إلى الكمال، انجذب الناس -القريب منهم والبعيد- إلى الإمام الرضا عليه السلام في كمالاته التي أبهرت الشاعر المعروف أبا نوّاس، الذي عوتب لعدم إنشاده الشعر في الإمام الرضا عليه السلام، فأجاب:
قيل لي أنت أحسن الناس طرّاً
في فنون من الكلام النبيه
لك من جوهر الكلام بديع
يثمر الدرّ في يدَي مُجتَنيه
فعلى ما تركت مدح ابن موسى
والخصال التي تجمّعن فيه؟
قلت لا أهتدي لمدح إمام
كان جبريل خادماً لأبيه
وقال أبو نؤاس للإمام عليه السلام ذات يوم:
مطهّرون نقيّات ثيابهم
تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا
من لم يكن علويّاً حين تنسبه
فما له قديم الدهر مفتخر
فأنتم الملأ الأعلى وعندكم
علم الكتاب وما جاءت به السور(11)
وفي الإمام الرضا عليه السلام، قال المأمون: “هذا خير أهل الأرض وأعلمهم وأعبدهم”(12). وفيه عليه السلام –أيضاً- قال رجاء بن أبي الضحاك: “… فوالله ما رأيت رجلاً كان أتقى لله منه، ولا أكثر ذكراً له في جميع أوقاته منه، ولا أشدّ خوفاً للهّ عزّ وجلّ”(13).
شهادة الإمام عليه السلام وزيارته
خوفاً على عرشه، دسّ المأمون السمّ في عنب أو عصير رمَّان قدّمه إليه، لينهي حياته الدنيويّة شهيداً في سنا آباد عام 203هـ، وهذا ما كان جدّه الإمام الصادق عليه السلام قد توقّعه داعياً إلى زيارة مرقده بقوله: “يخرج ولد من ابني موسى، اسمه اسم أمير المؤمنين إلى أرض طوس، وهي بخراسان، يُقتل فيها بالسمّ، فيُدفن فيها غريباً، مَن زاره عارفاً بحقّه أعطاه الله تعالى أجر مَن أنفق من قبل الفتح وقاتل”(14).
وكان النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم دعا إلى زيارته فيما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: “ستُدفن بضعة منّي بأرض خراسان، لا يزورها مؤمن إلّا أوجب الله عزّ وجلّ له الجنّة، وحرّم جسده على النار”(15).
1- عيون أخبار الرضا، الصدوق، ج 1، ص 26.
2- بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 49، ص 9.
3- (م. ن.)، ج 49، ص 100.
4- اختيار معرفة الرجال، الطوسيّ، ج 2، ص 747.
5- أعيان الشيعة، الأمين، ج 1، ص 101.
6- روضة الواعظين، النيسابوريّ، ص 225.
7- الفصول المهمّة، المالكيّ، ج 2، ص 1003.
8- مسند الإمام الرضا عليه السلام، عطاردي، ج 1، ص 44.
9- سيرة الأئمّة الاثني عشر، الحسنيّ، ص 394-395.
10- الإرشاد، المفيد، ج 2، ص265.
11- عيون أخبار الرضا عليه السلام، (م. س.)، ج 12، ص 155.
12- (م. ن.)، ج 2، ص 197.
13- بحار الأنوار، (م. س.)، ج 49، ص 92.
14- (م. ن.)، ص 286.
15- الأمالي، الصدوق، ص 119.