سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)
اختصرت مقولة الإمام الخمينيّ قدس سره معركة عاشوراء بأنّها كانت معركة “انتصار الدم على السيف”؛ وذلك من خلال ما تحقّق من أهداف ونتائج في كِلا المعسكرين: معسكر الحقّ المتمثّل بالحسين عليه السلام، ومعسكر الباطل المتمثّل بيزيد.
في العدد السابق ورد مختصر لأهداف الإمام عليه السلام من هذه المعركة، من جهة، وأهداف يزيد من جهة أخرى، وأفردنا في هذا العدد ما حقّقته الدماء الطاهرة للإمام الحسين عليه السلام ومن كان معه، وما خسره يزيد بسيفه الظالم في حساب الدنيا والآخرة.
أولاً: بقاء الإسلام
لقد أراد يزيد في حربه ضدّ الحسين عليه السلام في كربلاء أن يهدم أركان الإسلام، من أهل البيت إلى الصحابة، من المدينة إلى مكّة، لكنّ هذا الإسلام بقي وامتدّ واتّسع كمّاً ونوعاً إلى أن أوصلنا إلى أمّة مسلمة -مليار وأربعمئة مليون أو مليار وخمسمئة مليون مسلم-. ويعود الفضل في بقاء الإسلام وكلّ المذاهب الإسلاميّة إلى دماء الحسين عليه السلام وتضحياته في كربلاء. في أيّام يزيد لم يكن هناك شيعة وسنّة ولا حتّى خلاف مذهبيّ. كان هناك إسلام وجاهليّة، وعداء محكم لمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم ولدينه. لكنّ هذا الدين بقي بالحسين عليه السلام. ولهذا يفسّر بعض العلماء حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “حسينٌ منّي وأنا من حسين”: معنى “حسينٌ منّي” معلوم، أمّا “وأنا من حسين” فيفسّرونه بأنّ بقاء الإسلام بالحسين عليه السلام.
ثانياً: بقاء ذكر محمّد صلى الله عليه وآله وسلم
وكان من ضمن أهداف يزيد محو ذكر محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وآله. ولذلك عندما خطبت السيّــــدة زينب عليها السلام في الشام قالت ليزيد إنّ أهدافك لن تتحقّق. أولاً: “لنْ تُميتَ وحينا”: فالإسلام باقٍ، ثانياً: “لن تمحو ذكرنا”: والعترة باقية. الآن، أين لحسين عليه السلام وأين يزيد؟!
ثالثاً: الثأر من آل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
ما قام به يزيد في كربلاء اعتُبر فضيحة كبيرة كشفت زيفه وحقيقته وأسقطت شرعيّة حكمه، كما دفعت الأمّة إلى الثورة عليه على امتداد العالم الإسلاميّ حاملةً راية الثأر للإمام الحسين عليه السلام. ففي أقلّ من ثلاث سنين ونيف بعد شهادة الحسين عليه السلام سقط البيت السفيانيّ، ثمّ كذلك سقط البيت الأمويّ المروانيّ، وكذلك كانت الراية والشعار الذي استخدمه العباسيّون في إسقاط سلطان بني أميّة “يا لثارات الحسين”.
إذاً، كلّ أهداف يزيد لم تتحقّق. نعم، يمكن القول إنّ ما تحقّق فقط هو الثأر من آل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: أبكاهم وأفجعهم، قتل أحبّتهم، وثأر من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن مكّة ومن الكعبة ومن النبيّ ومن المدينة، ولكن كلّ هذا انتهى، وامتداده كان له آثار سلبية وعكسيّة تخدم أهداف الحسين عليه السلام ولا تخدم أهداف يزيد بن معاوية.
وبقي الحسين عليه السلام إلى اليوم حافظاً للإسلام، وما زال حتّى اليوم يملك قدرة الاستنهاض، وهذا ما تحقّق في زمن الثورة الإسلامية في إيران، وفي لبنان وفي أكثر من بلد…
وعن النتائج في حساب الدنيا أنقل ما قاله الإمام زين العابدين عليه السلام، عندما عاد عليه السلام من رحلة السبي إلى المدينة واستقبله إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله، وهو شخصيّة معروفة في المدينة، فقال: من كان الغالب والرابح في هذه المعركة؟ اختصر الإمام زين العابدين عليه السلام الجواب بكلمتين فقال: “إذا دخل وقت الصلاة فأذِّن وأَقِمْ تَعرف من الغالب”. المعركة كانت في بقاء الإسلام والغالب هو الحسين عليه السلام. ومن لحقت به الهزيمة هو مشروع يزيد وأهدافه.
* النتائج في حساب الآخرة
إنّ نتائج هذه المعركة، وميزان الربح والخسارة هي أمرٌ أوضح. سنتحدث عن ذلك باختصار لأخذ العبرة والتزوّد.
أولاً: أداء التكليف: كان الحسين عليه السلام يؤدّي تكليفه الشرعيّ وحقّ عبودية الله تعالى في معركة كربلاء وحركتها.
من يقرأ دعاء الحسين عليه السلام يوم عرفة يكتشف جانباً من جوانب عبوديّة الحسين لله عزّ وجلّ، فالحسين عليه السلام يُقدِم على ما يأمر به الله مهما كانت الأثمان.
الحسين عليه السلام كان يقطع بأنّ تكليفه الشرعيّ أن لا يبايع يزيد مهما كلّف الأمر، ولأنّه لا يوجد في المدينة من يقف معه، وينصره، أصبح تكليفه الشرعيّ أن يغادر المدينة، فاختار مكّة، حيث يجتمع المسلمون للحجّ والعمرة، وحيث يشرح للناس من هو يزيد، وما هي مخاطر سلطانه، وأهدافه. إذاً، ترتّب عليه تكليف شرعيّ ثانٍ وهو الهجرة من المدينة، مدينة الآباء والأجداد التي فيها وُلد وعاش، وفيها قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمّه الزهراء عليها السلام، فيترك كلّ شيء في المدينة ويخرج إلى مكّة.
وفي مكّة عندما أرسل إليه أهل الكوفة (أن أقْدم يا ابن بنت رسول الله فإن في الكوفة لك جنداً مجنّدةً) أصبح تكليفه الشرعيّ أن يذهب إلى الكوفة حيث الأنصار والأعوان. ولكنْ عندما وصل إلى مقربة منها وجُعجع به إلى كربلاء وحوصر، كان تكليفه الشرعيّ أن يرفض البيعة ولو أدّى ذلك إلى القتال فأصبح تكليفه أن يقاتل دفاعاً عن نفسه، وعن عائلته، وعن أطفاله وأن يرفض البيعة المُذلّة، فانتهى الأمر بالشهادة. الإمام الحسين عليه السلام كان يؤدّي تكليفه الإلهيّ. هذا نصر وفوز حقيقيّ بالمعيار الأخرويّ، لأنّ أداءنا لتكليفنا الشرعيّ هو ما ينجّينا يوم القيامة… وطاعتنا لله سبحانه وتعالى، وليس النتائج.
ثانياً: الفوز بالشهادة: من الممكن أن يقضي الإنسان كلّ حياته بتأدية تكليفه الشرعيّ ولا يُختم له بشهادة. هذه مشيئة الله سبحانه وتعالى. الفوز بالشهادة هو نصر، هو غَلَبة وهو “فَتْح” في الحسابات الأخروية.
كان أمير المؤمنين عليه السلام عاشقاً للشهادة وطالباً لها، وكان يتحدّث عن حبّه الشديد للشهادة وأُنسه بها؛ لذلك عندما انقضّ عليه ابن ملجم اللعين في مسجد الكوفة وضربه بالسيف على رأسه كانت الجملة التي قالها عليّ عليه السلام ودوّت في المسجد، بل في الكون، بل في التاريخ، وكُتبت ونقلت إلينا هي: “فزتُ وربّ الكعبة”. هذا هو الفوز والانتصار بهذا المنطق وبهذا المعنى.
ثالثاً: الفوز بالآخرة: مَن أدّى تكليفه الإلهيّ وخُتم له بالشهادة له عند الله سبحانه وتعالى مقامات ودرجات وكرامة عالية.
يتحدّث الله سبحانه وتعالى، في عشرات الآيات القرآنية، عن هذه النتيجة في الآخرة للصالحين وللمؤمنين وللمجاهدين وللشهداء، يقول: ذلك هو الفوز العظيم.
إذاً، هذا الحسين عليه السلام، ولكن أين يزيد؟ أطاع هوى نفسه، وأطاع شيطانه، وخالف ربّه، ومات ميتة سوء.. ميتة آل فرعون ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ﴾… انظروا إلى تاريخ هؤلاء الملوك الكبار، امتداد ملكهم كان عظيماً وكبيراً جداً، ماذا بقي منهم ومن ممالكهم؟
المُلك الحقيقيّ يوم القيامة، حيث يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الإنسان عمّا أعدّه للذين أطعموا اليتيم، والمسكين، والأسير، وعن جزائهم في الجنّة:
﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا﴾ (الإنسان: 19-20). إن كنت تريد المُلك فالمُلك والجاه والعظمة هي في الجنة.
إذاً، في الحسابات الأخروية، نحن ننتمي إلى الدين وإلى الثقافة التي تقول لنا: إذا كنا نؤدّي تكليفنا الإلهيّ ونمضي في طريق الله، ونجاهد في سبيله، أياً تكن النتائج الدنيوية فما ينتظرنا هو الفوز والحُسنى ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾ (التوبة: 52)؛ أي الشهادة أو النصر. لا يوجد في المنطق الإيمانيّ والعقائديّ والإسلاميّ هزيمة على المستوى الشخصيّ هناك نصر لمن يستشهد، وإذا تحمّلت الأمّة مسؤولياتها فهي تجني ثمار النصر.
فإذاً، في واقعة عاشوراء بالحسابات الدنيوية والأخروية نحن أمام واقعة انتصار صُنعت بالدماء والدموع والآلام والأحزان. ويبقى هذا الانتصار مضمّخاً بالدماء تعبق منه رائحة الحسين عليه السلام. ولذلك سمّاه الإمام الخمينيّ قدس سره “انتصار الدم على السيف”، لأنّ أهداف الدم تحقّقت وأُنجزت، وأهداف السيف سقطت، كلها سقطت، وما نعيشه اليوم يؤكّد أنّ الدم انتصر على السيف في 61 للهجرة وفي أكثر من مرحلة تاريخية.