مبارك عليكم جميعاً أسبوع التعبئة، التي كانت من الابتكارات المباركة لإمامنا الخمينيّ الجليل قدس سره . فقد أعلن سماحته في خطاب شهير مطلع شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 1979م عن ضرورة تأسيس جيش العشرين مليوناً في البلاد، وقد تحقّق ذلك الابتكار العظيم في الشهر نفسه من العام 1988م، أي بعد مرور تسع سنوات من تلك الخطبة الراقية والبليغة والرفيعة في مدح التعبئة وتبيان دورها وأهميّتها بعبارات عجيبة وأدب مذهل. ما الذي حدث على يد التعبئة في البلاد خلال السنوات التسعة تلك، حتّى أثّر ذلك في الإمام قدس سره على نحوٍ دفعه لاستخدام ذلك البيان الراقي؟
* التعبئة ثقافة وفكر
عندما بدأت الحرب عام 1980م، كان حضور التعبئة في ساحتها فعّالاً للغاية، وسنداً مهمّاً جدّاً للمنظّمات العسكريّة الرسميّة مثل الجيش وحرس الثورة الإسلاميّة، وقد نجحت في الاختبار في ساحة الحرب بشكلٍ لافت ورائع، ومع ذلك، فإنّ شأنها ومكانتها أسمى من مجرّد كونها تنظيماً عسكريّاً؛ فالتعبئة ثقافةٌ، وخطابٌ، وفكرٌ.
إنّ هذه الثقافة تعني خدمة المجتمع والبلد دون تباهٍ أو توقّع أيّ مقابل، فلا ينتظر التعبويّ أن يقال له: «بارك الله بك»، وحتّى في كثير من الحالات يخوض الميدان دون إعطائه ميزانيّة ومالاً وإمكانات. مع ذلك، ورغم كلّ المخاطر، نراه يؤدّي خدمة جهاديّة بروحه. وثقافة التعبئة تعني أيضاً أن يعرّض نفسه لخطر الإصابة بكورونا والموت من أجل إنقاذ مرضى ذلك الوباء. ثمّ في ميدان المواجهة العسكريّة مع العدوّ أيضاً، يتقدّم دون خوف أو خشية منه، وغيرها الكثير من المواقف في معترك الحياة السياسيّة والعسكريّة والعلميّة. التعبئة هي ثقافة تقديم الخدمة إلى الجميع والبلد، وبذل النفس من أجل الآخرين، وحتّى أن تُظلَمَ من أجل خلاص المظلوم.
* تعبئة اليوم تعبئة الثمانينيّات
أنتم شبابُ التسعينيّات والعقد الأوّل من القرن الجاري، شبابٌ غِضاض، لم تروا الإمام قدس سره ولا مرحلة الثورة ولا “الدفاع المقدّس”، لكن الروحيّة نفسها لذاك الشابّ في ميدان الحرب موجودة فيكم. إنّ تعبئة اليوم هي نفسها تعبئة الثمانينيّات.
أحياناً كنّا نرى بأنفسنا في حرب “الدفاع المقدّس” بعض الأجزاء والزوايا لذلك الميدان العظيم، ولكن ما هو في كتب وسيَر هؤلاء مئات الأضعاف وربّما آلاف الأضعاف لما كنّا نراه بأمّ أعيننا. ثمّة أشياء عجيبة في هذه الكتب عن سِيَر الشهداء والعظماء في ميدان الحرب.
* ثمرات التعبئة
للتعبئة قدرة على دفع البلاد إلى الأمام. وسأقدّم الآن بعض الثمرات الناتجة عنها:
1. أثبت حضور التعبئة في كلّ مرحلة أنّ الثورة حيّة ومتجدّدة ومبدعة.
2. إنّ روحيّة العمل الجهاديّ دون مقابل أو تباهٍ أو ظهور، تُحدِث نقلة نوعيّة في البلاد، وتضعها على عجلة التقدّم وتدفعها إلى الأمام.
3. التعبويّ أينما أنجز عملاً، يجعل عنصر الروحانيّة بارزاً في ذاك العمل. وهذا العنصر أمرٌ في غاية الأهميّة. يقول تلميذ عالِم نوويّ بارز في مركز “رويان”: حرنا في مسألة معيّنة، وكنّا نعمل حتّى وقت متأخّر من الليل -في جامعة الشهيد بهشتي- فطلب العالِم منّي مرافقته، ذهبنا إلى المصلّى وبدأ بالصلاة والدعاء، ثمّ قال فجأة: عرفتها! لقد حُلّت المشكلة، فنهض وعاد إلى هناك. لاحظوا، تحضر السجدة والدعاء والصّلاة في البيئة العلميّة وأجواء العمل النوويّ! حضور التعبويّ يجلب معه الروحانيّة في المجالات كلّها. هذا أمرٌ في غاية الأهميّة.
4. الجانب العمليّ مهمّ أيضاً لأنّ التعبويّ لا يكتفي بالكلام فقط بل يعمل ويبادر، فهو أهلٌ للعمل والمبادرة ويتحرّك نحو المُثل، لأنّ نسيانها خطرٌ عظيم.
* فليعرف التعبويّ قدره
أيّها التعبويّون الأعزّاء، جسّدوا مشهد المعركة بين الجمهوريّة الإسلاميّة والأعداء: أين ساحة هذه المعركة الكبيرة؟ أين القضيّة؟ ليست القضيّة بضعة أشخاص من أعداء الثورة داخل البلاد، وإنّما أيضاً في المؤامرات التي يحوكها لنا الأعداء والاتفاقات التي يريدون فرضها علينا من أجل دفعنا إلى مغادرة المنطقة كلّيّاً والتخلّي عن حضورنا الإقليميّ، ومنعنا من إنتاج أيّ أسلحة استراتيجيّة مهمّة. إذاً، هذه هي ساحة المعركة، وأنتم تقفون في منتصف هذا الميدان وتقاتلون فيه. إنّ حضور التعبئة في البلاد يعني التصدّي لمثل هذه المؤامرات الكبيرة. أنتم الذين ناضلتم ودافعتم عن العتبات المقدّسة، ووقفتم ضدّ جماعة أمريكيّة الصنع، أي “داعش”. أنتم الذين ساعدتم مقاتلي لبنان الشجعان بأيّ طريقة ممكنة، كما ساعدتم الفلسطينيّين أيضاً، ولا تزالون تفعلون.
أريد أن يعرف التعبويّ قدره. إنّكم تقاتلون في مثل هذا الميدان. وعلى التعبويّين أن لا ينسوا أنّ الصراع هو مع الاستكبار العالميّ، فالمواجهة الرئيسة هناك.
* توصيات للتعبويّين
أودّ أن أقدّم بعض التوصيات إليكم، أيّها الإخوة التعبويّون:
1. الأولى: فلتسألوا الله أن يساعدكم على البقاء تعبويّين، ولتحافظوا على الروح والإيمان التعبويَّين.
2. الثانية: فلتعرفوا قدر أنفسكم، لا أن تتفاخروا، واعلموا أيّ موضع مهمّ وفّقكم الله المتعالي لاختياره وقد اخترتموه.
3. الثالثة: فلتعرفوا أوّلاً مَن هو العدوّ، ولا تخطئوا في تشخيصه، وعندما تعرفونه، اعرفوا نقاط ضعفه ومكامن عجزه. ولتعلموا أنّه يعمل اليوم من منطلق الكذب ونشر الأكاذيب، عندها، تترتّب مسؤوليّة “جهاد التبيين” على عاتقكم بطبيعة الحال.
4. الرابعة: فلتنظروا في مستوى تساميكم الروحيّ، والتفتوا: هل تتقدّمون إلى الأمام أم تتراجعون إلى الخلف؟ وانظروا ما الأعمال الصالحة التي فعلتموها في الشهر الماضي وما الحركة الحسنة التي أدّيتموها، وأيّ مساعدة قدّمتم أو -لا سمح الله- ما العمل السيّئ الذي فعلتموه. اسعوا إلى التقدّم وحثّوا الخطى نحو الأمام.
5. الخامسة: اسعوا إلى تعزيز بصيرتكم، فالعدوّ يسعى للسيطرة على العقول، وهذا ذو قيمة أكبر بكثير لديه من السيطرة على البلدان، لأنّه إذا تمكّن من السيطرة على عقل شعب ما، فإنّ الأخير سيقدّم أرضه إلى العدوّ بكلتا يديه.
6. السادسة: فلتحافظوا على استعدادكم العمليّ حتّى لا يباغتكم عدوّكم. تحدث هذه المباغتات في عالم السياسة كثيراً. لذا، علينا جميعاً أن نكون حذرين، خاصّة مسؤولي البلاد.
7. السابعة: فلتحذروا من تغلغل العدوّ داخل مجموعة التعبئة: أحياناً قد يرتدي إنسانٌ فاسد وسيّئٌ زيّاً مزيّفاً، ويزجّ بنفسه ضمن فئة ما، كأن يرتدي زيّ الحوزويّين مثلاً.
8. الأخيرة: هي آيةٌ قرآنيّةٌ: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 139).
أيّها التعبويّون، حافظوا على الروح التعبويّة، بتلاوة القرآن وأداء المستحبّات بالقدر الذي تستطيعون طبعاً، وبقدر ما لديكم من نشاط، ولتقرؤوا سِيَر الشهداء التعبويّين، الذين ذهبوا إلى ساحة الحرب واستشهدوا، ولتأخذوا العِبر منها.
*كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله في حشد من التعبويّين بمناسبة أسبوع التعبئة في 26/11/2022م.