إن الله تعالى لا يقدر على الإنسان إلا الخير، ولا يقضي عليه إلا الخير وما فيه مصلحته، وهذا ما نبَّه إليه تعالى في كتابه العزيز.
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “شَرُّ الأُمُورِ التَّسَخُّطُ لِلْقَضاءِ”.
كلُّ ما يحدث لنا في الحياة يحدث بقضاء من الله وقَدَر، هذه هي الحقيقة الكبرى التي يجب أن يدركها المؤمن، فما من شيء يحدث في الوجود إلا بإرادة الله ومشيئته، قال تعالى: “وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا ﴿23﴾ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا ﴿الكهف/24﴾.
لكن معظم الناس يُسيئون فهم القضاء الإلهي ويعتبرونه أمراً إجبارياً لا دخل لإرادتهم فيه، فيرمون بكامل المسؤولية على الله تعالى ويبرِّؤون أنفسهم منها، وهذا الفهم المُنحرف هو المسؤول عن معظم النكسات والنكبات الفردية والعامة التي ابتُلِيَت بها أمة الإسلام، بل جَرَّت عليها الكثير من الويلات والضَّعف والهزائم. وقد استغل ذلك الحُكامُ المنحرفون فرَوَّجوا لهذا اللون من التفكير، وأن الإنسان لا يملك إرادة ولا قدرة على التغيير من حال إلى حال، وأن عليه أن يستسلم لما هو كائن.
والحق أن الإنسان مسؤول عن معظم ما يحدث له، وأن عِلْمَ الله بما يكون لا يعني أنه يُجبر الإنسان عليه، ولا سلبه إرادته، فالإنسان موجود مختار مريد، وقد منحه الله هذا الاختيار ليكون قادراً على التقدم في حياته، فلو كان مُجبراً لعاش الحياة على منوال واحد، ولم يتطور في شيء، جُلُّ ما في الأمر أن الله تعالى وضع سُنناً وقوانين، وسبَّبَ أسباباً وأجرى الوجود عليها، ومن أمثلة ذلك، أن الله تعالى جعل النار مُحرقة، وعرَّف الإنسان كيفية الاستفادة منها والتعامل معها، فمن أشعلها ليتدفّأ بها دَفَّأته، ومن ألقى بنفسه فيها أحرقته، فَكُلٌّ من الله تعالى، لكن العبد هو الذي يختار أن يتدفَّأ بها من قريب أو يُلقي بنفسه في أتونها، ولما كان الله يعلم أن العبد سيلقي بنفسه في أتون النار في اليوم الفلاني والساعة والفلانية والسبب الفلاني رغم وَعيه فإنه تعالى يقضي عليه بذلك، كما يقول أحدنا وهو يراقب ولداً يسير على حافة جدار مرتفع يميل يميناً وشمالاً ولا يمسك بيده حبل نجاة أن الولد واقع لا محالة، ثم يقع. فليس الناظر إليه هو الذي أوقعه إنما سيره بهذه الحالة هو الذي تسبب له بالوقوع.
نعم: هناك أمور قضاها الله ابتداءً وليس للإنسان إرادة فيها ولا مشيئة، فوجوده قضاء إلهي، وحياته في الأرض قضاء إلهي، ومرضه قضاء إلهي، وموته قضاء إلهي، وانتقاله إلى الدار الآخرة قضاء إلهي، ووجود فصول أربعة في الأرض قضاء وتقدير إلهيين، وهكذا في سائر الأمور التي يًقدرها الله لصلاح الحياة في الأرض، حياة الإنسان وحياة سواه من المخلوقات والكائنات، فإن فَهِم الإنسان هذه الحقائق وتعامل معها بوعي أفلح وأنجز وتقدم وتطور، أما إذا عاكسها، أو جهلها، ولم يبذل جهداً لاكتشاف ما أودع الله من أسباب وعِلَلٍ فمن المُؤَكَّد أن يقع في الكثير من المصائب والبلايا.
إن الله تعالى لا يقدر على الإنسان إلا الخير، ولا يقضي عليه إلا الخير وما فيه مصلحته، وهذا ما نبَّه إليه تعالى في كتابه العزيز إذ قال: “أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ﴿78﴾ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴿النساء/79﴾ فالموت مصلحة للإنسان إذ به ينتقل من نشأة أدنى إلى نشأة أعلى، وولادة في حياة أخرى أرقى وأسمى، وبهذا فهو خير وليس كما يحسبه البعض شراً، وعلى المرء أن يُسلم لهذه الحقيقة الوجودية الكبرى، ثم إن الآية تنسب السيئة والحسنة إلى الله بالتفسير الذي قدمته سابقاً فإن الله يعطي الإنسان قدرة لينتفع بها في وجوه الخير فهذه حسنة، فإذا انتفع بها في وجوه الشر كانت سيئة، وفي كلتا الحالتين القدرة من الله، فمصدر القوة بيد الله، فأما السيئات فهي من الناس وناتج قرارهم وإرادتهم.
فما يكون من الله -والله لا يكون منه إلا الخير- لا يجوز أن يتسخَّطه الإنسان لأنه خير على أن السُّخط على القضاء يزيد من وقعه السلبي عليه، ويفقده القدرة على التأقلم معه والثبات أمام نوازله وتداعياته. أما ما يكون من الإنسان، ومعظم ما يُصاب به من مصائب هو ناتج عمله وقراراته مباشرة أو بسبب غيره من الناس، ففي هذه الحال عليه أن يدرس خطواته جيداً، وأن يتمَعَّن في الأسباب التي أدت إلى ذلك حتى يتمكن من معالجتها وتلافي الوقوع فيها مرة أخرى.