ممّا لا شكّ فيه ولا ريب هو قيمة الحضور الإلهي وعظمته في حياة البيت الفاطميّ عليهم السلام، وهي قيمة نستطيع فهمها واستنتاجها بأدنى نظر وقراءة لحياتهم الشريفة، فالعبادة وحضور القيم الدينيّة وكون رضى الله هو معيار التفاضل والسلوك وفق المعايير الإلهيّة كلّ ذلك من شأنه أن يرسي قيمة الارتباط بالله وجعلها أهمّ قيمة على الإطلاق.
وإذا أردنا التحدّث عن السيدة فاطمة عليها السلام في هذا الإطار. نستطيع أن نرى شدّة الحضور الإلهيّ في كلّ حركة من حركاتها وكلّ سكنة من سكناتها عليه السلام. حيث نرى أنّ ارتباطها بالله هو الذي صبّرها على شظف العيش. كما مرّ معنا، فيراها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعليها كساء من أجلّة الإبل. وهي تطحن الشعير وترضع ولدها فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: “فَقَالَ يَا بِنْتَاهْ تَعَجَّلِي مَرَارَةَ الدُّنْيَا بِحَلَاوَةِ الْآخِرَةِ” فَترد عليه: “يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى نَعْمَائِهِ وَالشُّكْرُ لِلَّهِ عَلَى آلَائِه”[1]… فارتباطها بالله هو العنوان العامّ والقيمة الأسمى في حياتها عليها السلام. وهو ما تجلّى في سلوكيّاتها وبالتالي هو ما أنشأت أطفالها عليه. فزرعت في نفوسهم تلك القيمة.
إنّ قيمة الارتباط بالله من الأهمّيّة بمكان في حياة الفرد.
حيث تمثّل إكسير الحياة في الحقيقة وهي سرّ التربية الناجحة، وهي قيمة القيم، والقيمة الحاكمة على كلّ القيم الأخرى، فعندما يثمّن الفرد حضور الله عزّ وجلّ في حياته، يصبح لديه منظارًا ثاقبًا وبصيرة هدى ونور ينوّر حياته كيفما حلّ وإن كان طفلًا، وإن الارتباط بالله من شأنه أن يغيّر نظرة الفرد حتى الطفل إلى الحياة، فمتى عرضت له الشدائد مثلًا يتمسّك بالقويّ المطلق، فيطمئنّ، ومتى نزلت به البلايا يراها امتحانات إلهيّة عليه النجاح بها، فعندما نربطه بالقويّ المطلق، والحقّ المطلق، والعدل المطلق، والحكيم المطلق والرحيم المطلق الذي لا يدبّر سوى مصلحتنا نكون قد أعطينا الطفل مفتاح النجاح في الحياة ومفتاح النجاح الأخرويّ.
وكما لا يخفى فإنّ توطين النفس على حضور الله في الحياة وتقديم رضاه على هوى النفس هو مربض جهاد النفس، فمتى سلكنا سلوك حياة السيدة فاطمة عليها السلام وربّينا أنفسنا على ذلك المنهج، وربّينا أولادنا من خلال تقديم ذلك النموذج إليهم في سلوكيّاتنا، نكون قد اختصرنا طريق أطفالنا وقدّمنا لهم العون الكبير في مسيرة جهادهم. ولعلّه هنا يكمن سرّ التربية الفاطميّة تحديداً. فالسيدة الزهراء اعتمدت التربية على القيم بأسلوب النموذج. وكانت سيدة القيم هي قيمة الحضور الإلهيّ والارتباط بالله وهي التي ظلّلت حياتهم، فكانت نتيجة تربيتها الحسن والحسين وزينب.
وللعبادة في حياة السيدة فاطمة عليها السلام
مكانةً مهمّة جدًّا وهو ما ستتبيّن ملامحه في درس حياتها العباديّة. وهنا نقول إنّ السلوك العباديّ للسيدة فاطمة عليها السلام بيّن حجم اهتمامها بذلك البعد في حياتها بشكل عمليّ. وهو بعد الارتباط المباشر بالله عزّ وجلّ ومناجاته والاختلاء به. وقد كرّست السيدة الزهراء عليها السلام هذه القيمة وأكّدتها وأجلّت أهمّيّتها باهتمامها المستمرّ بها فهي المتعبّدة المتهجّدة في الليالي، حتّى كانت أعبد الناس[2].
وحتّى من خلال اهتمامها بتفاصيل العبادة كأعمال ما قبل النوم حيث علّمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تقوم بأربعة أعمال قبل منامها (قراءة سورة التوحيد ثلاث مرات فكأنّها ختمت القرآن.
وأن تصلّي على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعلى الأنبياء قبله فيكونوا شفعاءها يوم القيامة. وأن تستغفر لجميع المؤمنين فيرضوا عنها جميعاً، وأن تقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فكأنّها حجّت واعتمرت)[3] ، واهتمامها بأوقات استجابة الدعاء[4]…، فكلّ تلك التفاصيل السلوكيّة تحكي عن إجلال وتعظيم للعبادة. وزيادة على كلّ سلوكها العباديّ في حياتها، فهي السيدة التي سلّمت روحها لبارئها عزّ وجلّ وهي تتعبّد[5]. فالعبادة هي الفعل الأخير الذي صدر عنها عليها السلام في الدنيا.
ولعلّ ذلك السلوك هو ما يؤدّي وينتج سلوكًا كسلوك السيدة زينب عليها السلام ليلة الحادي عشر من المحرّم. حيث نراها برغم أنّها نزلت عليها المصائب من كلّ حدَب وصوب. وفقدت إمامها وكلّ أهلها في ساعة واحدة ومع ذلك قامت بين يدي ربّها تصلّي صلاة ليلها ولم تقطعها[6].
السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام قدوة وأسوة، دار المعارف الإسلامية الثقافية
[1] ابن شهرآشوب المازندراني، المناقب، مصدر سابق، ج3، ص 342.
[2] ابن شهرآشوب المازندراني، المناقب، مصدر سابق، ج3، ص 341.
[3] البحراني الأصفهاني، عوالم العلوم، مصدر سابق، ج11، ص 857.
[4] الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج7، ص 384.
[5] إسماعيل الأنصاري، الموسوعة الكبرى عن فاطمة الزهراء عليها السلام، مصدر سابق، ج 15، ص111.
[6] باقر القرشي، السيدة زينب، بطلة التاريخ ورائدة الجهاد في الإسلام عرض وتحليل، دار التعارف، لبنان – بيروت، 1998، ط1، ص 260.