كان الإمام عليه السلام يستغلّ كلّ فرصةٍ مناسبة لتحريك مشاعر النّاس الغافلين، وعواطفهم من خلال بيان زاويةٍ من الوقائع المرّة لحياة الشّيعة، وذكر الضغوط وأنواع العنف والتشدّيد الّتي كانت تُمارس على الإمام وأتباعه من قِبَل القوى المهيمنة، وبذلك كان يهزّ عروقهم الميّتة والراكدة، ويزلزل قلوبهم الفاترة، أي أنّه كان يُعدّهم لتلك المواقف المتشدّدة، والتحرّكات الثوريّة.
وقد أجاب رجلًا، سأله ذات يوم: كيف أصبحتَ يا بن رسول الله؟ يروي المنهال بن عمرو تلك الرواية فيقول: “كنت جالسًا مع محمد بن علي الباقر عليهما السلام إذ جاءه رجل، فسلّم عليه، فردّ عليه السلام، قال الرجل: كيف أنتم؟ فقال له محمّد عليه السلام: أوما آن لكم أن تعلموا كيف نحن؟! إنّما مثلنا في هذه الأمّة مثل بني إسرائيل، كان يُذبح أبناؤهم، وتُستحيى نساؤهم، ألا وإنّ هؤلاء يذبحون أبناءنا، ويستحيون نساءنا”[1].
(وبعد هذا البيان البليغ والمحرّك، يجرّ الكلام إلى القضيّة الأساس، أي أولوية الدّعوة الشيعيّة، وحكومة أهل البيت عليهم السلام).
“زعمت العرب أنّ لهم فضلًا على العجم، فقالت العجم: وبماذا؟ قالوا: كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم عربياً. قالوا لهم: صدقتم. وزعمت قريش أنّ لها فضلًا على غيرها من العرب، فقالت لهم العرب من غيرهم: وبمَ ذاك؟ قالوا: كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم قرشيًّا. قالوا لهم: صدقتم، فإن كان القوم صدقوا، فلنا فضل على النّاس، لأنّا ذرية محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأهل بيته خاصةً، وعترته، لا يشركنا في ذلك غيرنا، فقال له الرجل: والله إنّي لأحبّكم أهلَ البيت (عليكم السلام)، قال: فاتّخذْ للبلاء جلبابًا، فوالله إنّه لأسرع إلينا وإلى شيعتنا من السيل في الوادي، وبنا يبدأ البلاء، ثمّ بكم، وبنا يبدأ الرّخاء، ثمّ بكم”[2].
وفي موقف آخر أمام بعض الشعراء والعلماء الّذين باعوا أنفسهم، يُنزل أسواط توبيخه على رؤوس هؤلاء، ويُحدثُ أمواجاً من التنبيه واليقظة، إن لم يكن على مستوى وجدانهم الميّت، ففي أذهان وقلوب أتباعهم الغافلين. وبلهجته المعترضة على كُثير الشّاعر، يقول: أَمَدَحْتَ عبد الملك؟! فيُجيب بسذاجةٍ أو غفلةٍ، وهو بصدد تبرير معصيته، قائلًا: لم أُخاطبه بإمام الهدى، بل مدحته بكلمات الأسد والشّمس والبحر والأفاعي والجبال، والأسد كلبٌ، والشّمس جسمٌ جامدٌ، والبحر جسمٌ بلا روح، والأفاعي حشراتٌ، والجبل صخرةٌ صمّاء. وهنا يتبسّم الإمام أمام هذا العذر والتبرير غير الوجيه، بطريقةٍ ذات مغزى، وهنا ينهض الكُميت – الشاعر الثوريّ والهادف ويُنشئ واحدة من قصائده الهاشميّات[3]، ليضع في أذهان الحاضرين معنى المقارنة بين هذين النّوعين من العمل الفنّي، ويوصل ذلك إلى كلّ الّذين سمعوا بهذه الواقعة[4].
تاريخ النبي وأهل البيت عليهم السلام، دار المعارف الإسلامية الثقافية
[1] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج46، ص360.
[2] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية ـ مؤسسة البعثة، نشر دار الثقافة ـ قم، ط1، 1414هـ، ص 154.
[3] القصيدة الّتي بدأت بهذا البيت الشعريّ:
من لقلب متيّم مُستهام غير ما صبوة ولا أحلام
ووصلت إلى هذا البيت البليغ والقاصم والمليء بالمعرفة: ساسة لا كمن يرى النّاس سواء ورعية الأنعام الكاتب.
[4] ابن شهرآشوب، المناقب، ج4، ص 207.