Search
Close this search box.

أطروحة القرآن في عاقبة الفجور والطغيان

تدعونا سورة “الشمس” المباركة إلى الحذر من الطغاة ومن أن يسود الفجور في مجتمعاتنا، ويظهر لنا القرآن الكريم في هذه السورة أبرز أنموذج طغياني عرفته البشرية بما وصلت إليه النفس من فجور.

و يسأل بعض الإخوة عن ما يعنيه القسم في سورة “الشمس” المباركة ويقولون: لماذا هذا التكثيف القسمي في مظاهر الخلق والوجود حيث بلغت الأقسام السبعة، وبعضهم رأى أن الأقسام هي أحد عشر قسماً؛ وهذا ما لم نجده في سورة أخرى.

فما هي دلالة هذا القسم الإلهي؟ ولماذا خصّت ثمود بطغوها دون غيرها ممن كانوا أظلم وأطغى؟ وما هي حقيقة البيان في تنكير النفس في القسم “ونفس وما سواها”؟

لا بد من التنويه أولاً بهذا السؤال العلمي الذي يثير من الأسئلة ما لا يتسع المقام للإجابة عليها إلا أنه يمكن تلخيص الموقف بما لايخل بالمطلوب من السؤال المطروح. ولاشك في أن أول ما تقتضي الإشارة إليه هو أن الطغاة لو كانوا يقرؤون القرآن ويتدّبرون في آياته، لعلموا معنى أن تزكو النفوس أو أن تفجر! ولكانوا أراحوا مجتمعاتهم من طغيانهم الديني والسياسي!

وإذا كنا نسأل عن خصوصية أن تذكر ثمود دون غيرها فهي لم تذكر بلحاظ كونها أظلم وأطغى ما عرفته البشرية؛ وإنما ذكرت في سياق، إذ انبعث أشقاها، وقد جاء هذا التحشيد القسمي العظيم في سورة الشمس لتبيان حقيقة ما يحدثه الفجور من مفاسد في مظاهر الخلق والوجود، ولهذا جاء الكلام عن ثمود وطغيانها لتظهير أخطر النماذج البشرية وأحقرها وأشقاها، ونعني به “قيدار بن سالف”. عاقر الناقة المعجزة، متحدياً ومكذباً لله تعالى في أن يبعث نبياً أو أن تكون له معجزة!

لقد جاء ذكر ثمود بعد جواب القسم لتبريز هذا النموذج الطغياني الفردي الذي كان من مؤدياته العذاب والهلاك لأمته ومجتمعه، فهذا الشقي الذي قيل فيه أنه أشقى الأولين استطاع بمفرده وسيادته على قومه ونفوذه فيهم أن يأخذهم إلى الفناء والبلاء، فما أحرانا أن نكون حذرين من هؤلاء الذين لا يخلو منهم أي مجتمع بشري! وهنا يمكن  لنا تبيان  المعنى الحقيقى الكامن وراء هذا القسم، وهو ملاحظة الوعظ للمجتمع المكي وقريش في حينه الذي كان معروفاً بالأشقياء أمثال أبي جهل وأبي لهب وأبي سفيان.

فجاءت السورة بحشدها القسمي، وبقرب ثمود في الزمان والمكان من مكة لتفيد أن تدسية النفس هي سبب البلاء والفجور، فكانت بمثابة التحذير من أن يأخذ هؤلاء الطغاة المجتمع إلى الفناء والهلاك كما جرى لثمود بطغواها، والذي تجلى بأشقى الأشقياء.

فهذا الشقي بما كان له من سطوة ونفوذ على قومه حملهم جميعاً على أن يكونوا في تكذيب للرسول(ص) والرسالة ما أدى بهم إلى الهلاك، وكما قال الإمام علي(ع) حينما سئل عن هلاكهم جميعاً بذنب صاحبهم:”قيدار”، قال(ع): “عمهم العذاب لأنهم عموه بالرضا.”.هذا أولاً.

ثانياً: إن لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه للتدليل على عظمة المقسم به ليكون برهاناً على صحة وعظمة ما أقسم عليه بواسطة عظم ما أقسم به، فهو تعالى يقسم بما شاء من خلقه، ولا يجوز القسم إلا به من خلقه، ولا شك في أن هذا القسم يستوقفنا لجهة تكثيفه وتحشيده ليكون جواب القسم هو تزكية النفس وفلاحها،كما قال تعالى:“قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها”.

وكما نلاحظ أن القسم بالنفس جاء بالتنكير:“ونفس وما سواها”، وبخلاف سائر الأقسام في السورة المباركة، ما يؤكد لنا دلالة التمايز لهذه النفس في ما تعنيه في مظهرية الخلق والوجود،كما يقول المفسر الايراني الشهير للقرآن الراحل العلامة الطباطبائي إن التنكير مفيد لحقيقة التفخيم والتعظيم بأن للنفس وصفًا ونبأً.

فالقسم بها يفيد معنى المركزية والتأثير على كل مظاهر الخلق والوجود بما ينعكس منها من حالات وأحوال من شأنها أن تجعل من تزكيتها اتساقاً واعتدالاً وانتظاماً بعد أن ألهمت فجورها وتقواها،وعلمت بحقيقة خالقها ومولاها،فهي إن تزكت كانت لها مظهرية الوجود والإصلاح والعدالة،وإن تدّست وفجرت خرجت عن كونها ميزاناً،وكانت لها تحولات الفساد والطغيان،وقد نهى ربنا عن ذلك، فقال:”لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها” ألا نرى كيف أن الطغاة يحجبون ضياء الشمس بفسادهم،ويظلمون الحياة بفجورهم الديني والسياسي والاقتصادي،ناهيك من الفجور العلمي الذي أفسد البر والبحر بما كسبت أيدي الناس؟!

هكذا يظهر لنا القرآن الكريم أبرز أنموذج طغياني عرفته البشرية بما وصلت إليه النفس من فجور! وهذا ما يجعلنا نتدبر جيدّاً بما يفعله الطغاة في بلادنا ومجتمعاتنا؛ فالسورةكما نلاحظ لم تبّرز نموذج التقوى ومؤدياته،بل ظهّرت أنموذج التدسية والفجور، لتؤكد لنا جوهرية العلاقة والرابطة المحكمة بين التزكية والتدسية ومظاهر الخلق والوجود وما يكون لذلك من انعكاسات على تحققات الاجتماع البشري.

فإذا كان الحاكم فاسداً وفاجراً ووجد حضانته ومقبوليته في المجتمع، فإنه يكّذب بكل حقائق الوجود، ويتمرد على كل القيم، ويتسبب بالهلاك والتدمير للأمة والمجتمع! إن أعظم درس تقدّمه لنا سورة الشمس هو الإرشاد والحذر من مساوىء الفجور، والطغيان، وأن نجعل من تزكية النفس سبباً للتواصل والترابط البناء مع عالم الخلق والوجود التي لولاها لما كان له معنى التحقق الوجودي والمعرفي.

فالسورة تلامس الواقع وما كان عليه الناس في جاهليتهم،كما قال تعالى: “والليل إذا يغشاها، فهل سأل أحدنا لماذا جاء حلف النهار بالفعل الماضي:”جلاها”، وجاء حلف:”الليل” بالفعل المضارع؛ أليس ذلك من أجل ملابسة واقع وعصر كان  يغطّيه الظلام والجهل!؟

فالسورة المباركة تدعونا إلى الحذر من الطغاة ومن أن يسود الفجور في مجتمعاتنا؛ وقد رأينا بأم العين ونور القلب كيف أن شقي ثمود يقوم بحكم مجتمعاتنا ولا تنجو من ظلمه مؤسسة، ولا زالت هذه الأمة،كما هو حال سائر الأمم، تنتقل من شقي إلى شقي حتى  داهمها البلاء والفناء في كل حالاتها،إذ لم يبق  دين أو سياسة أو تعليم أو تربية،أو غير ذلك مما تتقّوم به الحياة،إلا وأفسده الأشقياء بطغيانهم وتكذبيهم لكل مصلح في حياة المسلمين،وما الله بغافل عما   يفعله الطغاة والمفسدون.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل