اجتمع أولاد الإمام علي (ع) حوله ليستمعوا إلى وصاياه وأعينهم محمرة من كثرة البكاء، تلك الوصية لم تكن لأولاد الإمام فحسب بل كانت موجهة لجميع البشر وحتى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
معركة صفين وما رافقها من احداث مؤلمة وأيام سوداء في تاريخ الاسلام، ليست خافية على احد، لاسيما اصحاب الفكر الثاقب والباحثين الاسلاميين. فبعد ظهور الخوارج والفكر المنحرف الذي حملوه والقراءة السطحية للاسلام. وبعد مقاتلتهم في النهروان بواسطة اميرالمؤمنين (ع)، واخماد الفتنة التي أثاروها وحروب ما تبقى منهم إلى اماكن شتى.. اجتمع ثلاثة منهم في مكة المكرمة وتعاهدوا على قتل ثلاثة شخصيات، افضلهم واتقاهم واسماهم في كل شيء الامام العادل علي (ع)، الذي اقسم ابن ملجم (لع)على قتله وهو اشقى واتعس من صاحبيه اللذين تعهدا بقتل معاوية بن ابي سفيان وعمرو بن العاص.. وهكذا فقد اقدم اللعين الشقي ابن الملجم، على قتل افضل العباد بعد النبي (ص)واعلاهم درجة وازهدهم في الدنيا هو علي (ع)، وذلك في الشهر الفضيل، رمضان المبارك عام 40 للهجرة، في مسجد الكوفة. عندما فتح الإمام عينيه ونظر إلى ابن ملجم ورآه مكتوف اليدين والسيف معلّق في عنقه قال بصوت ضعيف ورأفة وعطف: “يا هذا لقد جئت عظيماً وارتكبت أمرا عظيماً وخطباً جسيما أبئس الإمام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء ؟ ألم أكن شفيقا عليك وآثرتك على غيرك وأحسنت إليك وزدت في إعطائك ؟ ألم يكن يقال لي فيك كذا وكذا فخليت لك السبيل ومنحتك عطائي وقد كنت أعلم أنك قاتلي لا محالة ؟ ولكن رجوت بذلك الاستظهار من الله تعالى عليك يا لكع وعل أن ترجع عن غيك ، فغلبت عليك الشقاوة فقتلتني يا شقي الأشقياء”.
ثم التفت الإمام إلى ولده وأوصاه في حق هذا اللعين قائلاً:
” إرفق يا ولدي بأسيرك وارحمه ، وأحسن إليه وأشفق عليه ، فإن أنا مت فأقتص منه بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة ولا تحرقه بالنار ولا تمثل بالرجل”.
اجتمع أولاد الإمام علي (ع) حوله ليستمعوا إلى وصاياه وأعينهم محمرة من كثرة البكاء، تلك الوصية لم تكن لأولاد الإمام فحسب بل كانت موجهة لجميع البشر وحتى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
“بداية قولي أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنا محمداً ابن عمي رسول الله … يا بَنيّ: عليكم بالورع والتقوى والصبر أمام المحن والشدائد. لا تتعلقوا بالدنيا ولا تأسفوا على ما فاتكم … صلوا أرحامكم وأحسنوا لهم، وأعينوا الفقراء والمساكين، وزوروا المرضى …”.
كان أولاد الإمام علي(ع) جالسين يستمعون إلى كلامه الطيب والحزن يعتصر قلوبهم والغصة تملأ حلوقهم، إلى أن أنهى سماحته (ع) هذا الجزء من وصيته بقوله لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وبعدها غاب عن الوعي، وبعد لحظات فتح عيناه الالهيتين بشكل بسيط وقال: “بني حسن، ألا واني منصرف عنكم وراحل في ليلتي هذه، فإذا أنا مت فغسلني وكفني وحنطني، وصلي علي وقم بدفني في الظلام بعيداً عن مدينة الكوفة كي يخفى على العامة موضع قبري”. لقد كان عامة بني هاشم وخاصة العلويون ينحبون ويذرفون الدموع حزناً على فراق الإمام (ع)، كان الإمام الحسن(ع) أقرب الجالسين في محضر أمير المؤمنين(ع) فانتبه الإمام إلى شدة حزنه وألمه فقال: “بني أوصيك واخوانك بالصبر والتسامح”. ثم أغمي عليه (ع)، وبعد لحظات فتح عينينه وقال مخاطباً الإمام الحسين(ع): “بني إن حياتك أيضاً ستكون مليئة بالأحداث فاصبر إن الله يحب الصابرين”.
في هذه الأثناء أصبحت حالة الإمام أشد سوءاً فأغمض بعدها بلحظات عينيه المباركتين وقال:
“أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله”.
وبعد تأدية الشهادتين التصقت شفتاه المباركتان وحلقت روحه باتجاه بارئها والتحق بالرفيق الأعلى وبهذا انتهى عصر رجل لم يسعى طوال حياته سوى في سبيل إحقاق الحق والحقيقة.
شرع الإمام الحسن(ع) بمساعدة أخيه الإمام الحسين(ع) وعدد آخر من الرجال بتجهيز جسد والدهما المبارك وبعد تأدية الطقوس الدينية قاموا بدفن جسده الطاهر خلف الكوفة في المكان الذي يُشتهر اليوم باسم النجف. وكما أوصى الإمام(ع) قاموا بتسوية قبره بالأرض كي يخفى على الجميع لكي لا يقوم أعداؤه من بني أمية والخوارج بإخراج جسده الطاهر والإهانة إليه والتعدي عليه!. وبقي الضريح النوراني للإمام علي(ع) مستوراً عن الأنظار حتى عهد الإمام الصادق(ع).
ومما قاله الامام الخميني (قدس سره)في هذا الشأن، موضّحا فضائل ومناقب امير المؤمنين:” نحن نعجز عن ذكر الأبعاد المعنوية لأمير المؤمنين، فلا نتمكن من قول جملة واحدة مطابقة للواقع بشأنها، لكن يمكن التحدث حول بعض الأبعاد المادية والاجتماعية؛ لا حظوا أحوال من كان خليفة للمسلمين وبيده زمام أمور الدولة؛ فبرغم كونه خليفة ويصلي الجمعة بالمسلمين لا يمتلك ملابساً كثيرة، وكما ينقل عنه أنّه صعد المنبر لتحريك الملابس التي يلبسها كي تجف لعدم امتلاكه غيرها؛ وكانت له نعل يخصفها بنفسه، ولما يسأل عن ذلك يقول: ما قيمة هذا النعل؟ فيجاب: لا قيمة لها، فيقول (ع): «والله لهي أحب إليّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلًا».أي خليفة في الأرض يشبه وضعه وضع أمير المؤمنين (ع)؟ لقد كان الامام مظلوماً حقا.”
صحيفة الامام، ج20، ص406.
“إنّ ضربة عليٍّ يومَ الخندقِ أفضَلُ مِنْ عِبادة الثَّقَلَيْن” وليست هذه لأنّ كلّ الكفر نازلَ كلَّ الإسلام بل كانت هذه الفضيلة. فلو فرضنا أنّ أحداً غير أمير المؤمنين ضرب هذه الضربة، وأنزل هذه الهزيمة لما كانت لها هذه الفضيلة التي هي أسمى من صلاة الأنبياء. كانت هذه الضربة قد نبعت من روح أمير المؤمنين، وكانت فضيلة الأيام التي ضرب فيها أسمى من كلّ الأيام، لأنّ قلبَه كان قلباً إلهياً لم يَجِدْ غير الله إليه سبيلا. فالضربة التي تنبع من هذا القلب والتصميم الذي يُشرق منه قيمته أفضل من كلّ ما في هذا العالم على ما تفضّل الرسول- صلّى الله عليه وآله-
قال الإمام علي(ع) في دعاء كميل: “حتى تكون أعمالي وأورادي كلُّها ورداً واحداً.
فما معنا أن تكون جميع الأوراد والأذكار كلّها ورداً واحداً؟ أتعني أن يكون “سبحان الله” هو “الحمد لله” أم أن تصبح “لا إله إلا الله” هي “الحمد لله”؟ وما معنا أن تصبح الأوراد كلّها ورداً واحداً؟ وبالطبع ما قاله أيضاً الإمام عليه السلام: “ولم أشرك بالله طرفة عين أبداً” لعمل عظيم حقاً. إنه لكلام جداً جداً كبير، فلا شيء أكثر إعجازاً من أن يكون في الدنيا ولم يشرك بالله طرفة عين أبداً، فنحن ومهما نظرنا إلى أنفسنا وبذلنا قصار جهدنا وأردنا أن نكون هكذا لمدة ساعة فقط، لما أمكن لنا هذا؛ فنحن نغوص بالشرك، ولا نعرف نحن أنفسنا أي شرك نغوص فيه. ونحن أنفسنا لا نعلم كم لنا من أوراد وأذكار متعددة ومتنوعة؛ ورد البنون، ذكر العيال، ورد المنزل، ورد السياسة، ورد الأنانية، ورد المال وذكر الجاه، ولو ارتقينا بأنفسنا لأدركنا أن لدينا ورد الجنة وورد التفاح، ورد الحرير والذهب وحور العين أو ورد البعد عن النار. ولكن أولئك الذين لديهم ورد واحد، لوأنهم كانوا يقيمون في هذه الدنيا لما عبدوا غيره، ولو كان لديهم مال الأرض كله لما أنفقوه في سبيل سواه، ولو أنهم كانوا يريدون أولاداًَ لما تمنوا ذلك سوى ليحب أولئك الأطفال المعبود سبحانه وليرفعوا كلمة لا إله إلا الله، فهؤلاء الذين كانوا ومنذ بداية الخليقة وحتى سطوع الفجر يتمتعون بقلوب صافية متجهة نحو نوره الواحد سبحانه، ولا يؤمنون سوى به وبتوحيده الذاتي والفعلي والصفاتي وقلوبهم مصبوغة بالصبغة الإلهية بشكل كامل.”
تقريرات فلسفية، ج3، ص230
“إن سقوط حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام)- والتي ناهز عمرها الخمسة أعوام، ومع كل ما رافقها من مشاكل ومتاعب، ومع كل ما تحمّله أمير المؤمنين (عليه السلام) من معانات- يعتبر مصاباً عظيماً إذا نظرنا اليه من جانب. كما أن تلك الاعوام الخمسة تحتم على المسلمين الاحتفاء بها مدى الدهر، الاحتفاء بحكومة يتمنى رئيسها والحاكم فيها- أمير المؤمنين (عليه السلام)- الموت لاحتمال تعرض ذمي أو ذمية لسرقة خلخالها في أحد أطراف بلاده. فمن أجل هذه الحكومة ينبغي للناس اقامة مراسم العزاء على رحيلها، والاحتفاء بالسنوات الخمس من حكومته لأنها كانت حكومة من أجل العدل، ومن أجل الله”
صحيفة الامام، ج2، ص339.
“أما عن حياة امير المؤمنين الامام علي (ع) فقد بسط نفوذ حكومته وامامته على بلاد شاسعة شملت جميع ارجاء الحجاز والعراق وسوريا ولبنان ومصر وإيران وتوحدت كل هذه البلدان تحت لوائه، فكيف يا ترى كانت حياته؟ هل كانت مشابهة لحياة الامراء؟ كان (ع) يمتلك فقط جلد خروف يفرشه ليلًا- حسب ما يذكر التاريخ- وينام عليه هو وزوجته، وفي النهار كان يحشي جلد الخروف علفاً ليعلف به البعير. هذه هي حكومة الاسلام. وكان (ع) يحفر القناة بيده، بمسحاته، وفي ذات اليوم الذي بايعه المسلمون عاد لمواصلة عمله، ولم يكن يعمل من اجل نفسه ومن اجل منفعته الخاصة بل حفر قناة وما أن تفجرت عين الماء حتى جعلها وقفاً للفقراء.”
صحيفة الامام، ج4، ص121.
“كان امير المؤمنين علي بن ابي طالب حاكما على مساحة واسعة تضم العديد من البلدان بدءً من الحجاز وحتى مصر وايران والعراق وسوريا وسائر الأماكن، وقد نقل لنا التأريخ كيف ان القاضي الذي عينه اميرالمؤمنين حينما اراد ان يقضي في قضية دعوى اليهودي عليه واتهامه له فان القاضي طلب اميرالمؤمنين وقد لبى اميرالمؤمنين ذلك الاستدعاء وحضر بين يدي القاضي ووقف مع اليهودي جنبا الى جنب وقد تماستجوابه واصدر القاضي حكما لصالح اليهودي وفي غير صالح امير المؤمنين سلام الله عليه، الذي كان يمثل الحكومة آنذاك وقد قبل الامام بذلك الحكم.ان وضعا حكوميا كهذا لا يمكن ان نتوقع حصوله في مكان آخر، ونحن نسعى لاقامة حكومة كهذه، حكومة عادلة تحب رعيتها.”
صحيفة الامام، ج6، ص51-52.