خُلق الإنسان بخصائص لا توجد في أيّ موجود آخر، ومن جملتها أنّ فطرته تنزع إلى طلب القدرة المطلقة وليس المحدودة، والكمال المطلق وليس المحدود، والعلم المطلق وليس المحدود؛ ذلك أنّه يريد احتكار كلّ شيء لنفسه؛ حتّى تحصل لها الطمأنينة والرضى. ولكن هل هذه هي الأسباب الحقيقيّة وراء طمأنينة النفس، أم ثمّة حقيقة أخرى؟
* نفسٌ لا تشبع
إنّ نفس الإنسان لا تشبع؛ فكلّما حصل على مكتسبات ما، تراه ينشد الحصول على المزيد. فمثلاً: إذا حكم شخص مدينة، فإنّه لا يكون راضياً بذلك، لأنّ نفسه تطلب الحصول على بلديّة، ثمّ محافظة كاملة. وعندما يصبح محافظاً، لن يكون راضياً بذلك، بل سيعمل ليكون تحت سلطته بلد كامل. وعندما يتحقّق له ذلك أيضاً، سيسعى ليكون بلد آخر تحت سلطته، وهكذا. وهكذا كان الحال زمن الصراع بين القوّتين العظميَين سابقاً: الاتّحاد السوفياتيّ والولايات المتّحدة الأمريكيّة، إذ لا ترضى أيّ منهما بقوّة الدولة الأخرى، بل تريد كلّ واحدة منهما الاستئثار بالعالم والانفراد به، حتّى لو أُعطيت كلّ منهما الأرض بكاملها، لما اطمأنت إلى ذلك ولما رضيت به، بل ستعمل للحصول على المزيد.
* اطمئنان القلوب
يقول الله تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد:28)؛ فالاطمئنان لا يتحقّق برئاسة الجمهوريّة، ولا برئاسة الوزراء، ولا بقوّة القوى الكبرى، ولا بملكيّة كلّ الملك والملكوت، وإنّما ما يطمئن النفس ويُخرجها من رغباتها والتزلزل الموجود فيها؛ هو (ذكر الله). وليس ذكر الله باللفظ، أي أن نقول: “لا إله إلّا الله”، بل الذكر الذي يحصل في القلب من خلال التوجّه إليه سبحانه. ثمّ تقول آيات أخرى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إلى رَبِّكِ* رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة*ً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ (الفجر: 27-30).
(النفس المطمئنة)؛ هي النفس التي لا رغبة عندها، وهي بعكس النفس التي إذا ما أصبح صاحبها رئيساً للوزراء، فإنّه يسعى لأن يتولّى رئاسة الجمهوريّة، وهكذا، إلى أن يرغب في السيطرة على العالم كلّه، ولن يطمئن حتّى يصل إلى سلطة أعلى يظنّها كمالاً مطلقاً. أمّا النفس المطمئنة، فهي تلك التي لا اهتمام لها بالرئاسة ولا بالسلطة ولا بعالم المادة أو بالعوالم الأخرى، بل اهتمامها منحصرٌ بذكر الله فقط. عندها، تطمئن تلك النفس وتسكن وترضى، وتكون هي المعنيّة بالخطاب.
* ربّ النفس المطمئنة
﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إلى رَبِّكِ﴾؛ يخاطب الله هذه النفس التي لا تملك أيّ شيء أن ترجع إلى ربّها، ربّ النفس المطمئنة. ﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي﴾، وليس (عباد الله) أو (العباد الصالحين)، بل (عبادي)؛ ثمّة دقّة في هذا الموضوع. عندما صرتِ في عبادي، عندها ﴿وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾؛ وليس (الجنّة) أو جنّة الآخرين. تلك الجنّة بكلّ عرضها وطولها لـ (العباد الصالحين) وليس لــ (عبادي). أمّا ما هو لعبادي، عناية خاصة لهذا الإنسان، عندما يحصل هذا، فجنته تختلف أيضاً عن الجنان الأخرى. لا تتخيّلوا أن جنانكم وجناننا مثل جنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. لا ذاك وضع آخر، جنة الرسول من نوع (جنّتي). الجنّة للجميع إن شاء الله، ولكن عندما تصل الأمور إلى (جنتي) فهي شيء آخر. القلب عندها لا يصل إلى مكان آخر؛ فهي جنّة اللقاء، جنّته هو سبحانه، فليس شيئاً سوى العبادة. عندها، تدخل (النفس المطمئنة) في نبع النور وفي الكمال المطلق الحقيقيّ، الذي كانت تنشد الوصول إليه.
* الكمال الحقيقيّ
إنّ ما سيندم عليه الإنسان هو أنّه أخطأ في حسابات الكمال؛ لأنّه كان يعتقد أنّ الكمال هو في أن يبقى في طلب دائم للسلطة والحكم والمال والجاه. من هنا نقول: إنّ فطرة الإنسان هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهي فطرة التوحيد والكمال المطلق. أنتم تبحثون عن ضائع، وتشتبهون في ما تبحثون عنه. نحن جميعنا نخطئ في الحسابات وتقدير الأمور، ونظنّ أنّ الهدف هو في الحصول على ما عند الآخرين. لا تُتعبوا أنفسكم؛ لأنّكم لن تشبعوا. ابحثوا عن شيء يمنحكم النضارة ويُطْمئِنُ أنفسكم؛ لأنّه كلّما ازداد ما يصل إلى أيديكم، يزداد تزلزلكم.
* الأنانيّة منشأ المصائب
الإنسان بنفسه حجاب سميك بينه وبين الله. اعملوا على إزالة الحجب الحائلة بينكم وبينه تبارك وتعالى. فكّروا في كيفيّة تحصيل الاطمئنان القلبيّ والراحة، والتخلّص من الاضطراب والقلق والهواجس النفسيّة والأنانيّة؛ لأنّها كلّها تحوّل حياتكم جهنّماً. الإنسان يحبّ نفسه كثيراً، ويُخيّل إليه أنّ أيّ عمل يقوم به إنّما هو عمل حسنٌ ولله. ولكن في الحقيقة، إنّ كلّ ما يروم إلى تحقيقه إنّما هو لنفسه. أمّا عندما يضع نفسه جانباً، فإنّ عمله حينها يكون لله.
نسأل الله أن يأخذ بأيدينا، وأن يعرّفنا واجباتنا، وأن يفهّمنا عيوبنا النفسيّة، وأن يهدينا للنجاة من تلك الهواجس النفسيّة.
(*) صحيفة نور، خطاب بتاريخ: 12 جمادى الأولى 1401ه، طهران، جماران، الجزء (14)، ص 162-169.