Search
Close this search box.

لَرُبَّما قَرُبَ الْبَعيدُ وَبَعُدَ الْقَريبُ

رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “لَرُبَّما قَرُبَ الْبَعيدُ وَبَعُدَ الْقَريبُ”.
لا ثبات لشيء من أمور الدنيا، المادة تتغيَّر فيها، والأحوال كذلك، لا يبقى حال فيها على حال، تتوارد فيها على الإنسان أحوال مختلفة من الحزن والسرور، والتعب والراحة، والفشل والنجاح، والتقدم والتوقف، والهِمَّة والكسل، كذلك تتغيَّر فيها العلاقات الإنسانية، فمن صديق قد يصبح عدواً، وعدوٍ قد يصبح صديقاً وولياً، يجتمع فيها أناس، ويتفرق فيها آخرون، فهي كما وصفها الإمام الحسين (ع) في خطبته التي خطب بها في العاشر من محرم إذ قال: “الحَمدُ للّهِ الَّذي خَلَقَ الدُّنيا فَجَعَلَها دارَ فَناءٍ وزَوالٍ، مُتَصَرِّفَةً بِأَهلِها حالاً بَعدَ حالٍ” وكما وصفها من قبلُ أبوه أمير المؤمنين (ع) إذ قال: “دَارٌ بِالْبَلاَءِ مَحْفُوفَةٌ، وَبِالْغَدْرِ مَعْرُوفَةٌ، لاَ تَدُومُ أَحْوَالُهَا، وَلاَ يَسْلَمُ نُزَّالُهَا، أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَتَارَاتٌ مُتَصَرِّفَةٌ”.
تلك هي الدنيا وتلك هي صفتها، وهكذا تتصرف بأهلها فتتحوَّل بهم من حال إلى حال، تُقَرِّب البعيد، وتُبعِدُ القريب، وهذا أمر مشهود لنا جميعاً، فكل جمع فيها إلى افتراق، إما افتراق إرادي اختياري، أو افتراق جبري اضطراري، فمن افتراق مُستجد بعد طروء عمل أو زواج أو سفر، أو بعد خلاف عَقَدي أو فكري أو سياسي أو مالي، أو بعد موت، أو سوى ذلك من الأسباب الداعية إلى الافتراق. أو اقتراب مستَجِد عن إرادة من الطرفين، أو من أحدهما، أو اقتراب اضطراري بسبب تغيَّر الأحوال، أو احتياج أحدهما إلى الآخر أو كليهما، ولو تأمّلنا علاقات الناس لرأينا العجب، أعداء وخصماء نراهم وقد اجتمعوا وحلَّت الإلفة بينهم محل العداوة، ومؤتلفون حدث خلاف بينهم فحلَّت العداوة محل الإلفة والمودة، كم من صديق حميم أخذته شؤون الحياة بعيداً عَنّا حتى نسينا، ونَسيَ الوِدَّ الذي كان بيننا، وكم أخ شقيق اختلف معنا على ميراث فابتعد وصار يفعل معنا فعل الأعداء، وكم من حَبيبين تزَوَّجا على حُبٍّ وأنجَبا على حُبٍّ، ثم وقع الطلاق والشِّقاق بينهما، وكم من مُؤالف لنا فكرياً أو سياسياً انتقل إلى الضَّفَّة الأخرى، فصار وَلِياً لأعدائنا وعدُوّاً لأوليائنا، الأمثلة في هذا المجال تكاد لا تُحصى، وكلها تفيد أن العلاقات بين الناس في تغيُّر دائم، والثابت منها يحتاج إلى توفيق وتسديد.
إن ما سبق يدعونا إلى التوازن في علاقاتنا والاهتمام بها والحقوق الواجبة فيها، وبنائها على قواعد سليمة من الفَهمِ، والتفاهم، والتَّفَهُّم، والاحترام، والوئام، والمودة، والتعاون، والإغضاء، والتجاهل، والتغافل، والنُصح، والإعذار، والصفح، والتجاوز، والغفران.

كما يدعونا في الوقت ذاته إلى الإقلال من التَّعلُّق بالقريب، كي لا يَصعُب علينا فراقه وابتعاده، وقد نبَّه الإمام أمير المؤمنين (ع) من هذا فقال: “أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَا، عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْناً مَا، عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْماً مَا”.
بقلم  الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل