Search
Close this search box.

حدود الإصلاح بين الذات والغير

حدود الإصلاح بين الذات والغير

يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلّ‏ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾([1])، لقد التقط كثيرون هذه الآية ليجعلوها يافطة ترفع في وجه الداعين للقيام بأداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهة، وليقنعوا القائمين بها بعدم الإكتراث بما يرون من انحرافات لأن مسؤوليتهم هي عن أنفسهم.

والحقيقة هي أننا نوافق على أن مسؤولية الإنسان هي أولاً عن نفسه وهو مكلف أولاً باصلاحها وبنائها والنأي بها عن موارد الفساد. لكن هناك فرقاً واضحاً بين أن يكون بناء وإصلاح الذات أولوية، وبين أن تكون حدود مسؤولية الإنسان هي حصراً عن نفسه. فالآية لا تدل على حصر المسؤولية بل قد تدل على الأولوية والأولوية لا تنفي المسؤولية عن غير النفس من الأنفس.

ولو فهمت الآية بهذا الشكل المنحرف لكان من لوازمها نسخ الآيات والأحكام التي يكون موضوعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولما عاد من معنى لهذه الفريضة.

فمعنى الآية أن على المؤمنين ألا يتأثروا بكون كثير من الناس يسيرون في طريق الضلال فيصابوا بالإحباط أو اليأس نظير الحديث المروي عن أمير المؤمنين عليه السلام: “لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله”([2]).

أو لنفي تحميل المؤمنين تبعات وعواقب عدم تأثر المنحرفين بدعواتهم للهدى والصلاح طالما أنهم أدوا ما عليهم تجاه مجتمعهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا إنها تنفي مسؤولية المؤمنين عن القيام بواجب الأمر والنهي بل هي تؤكد القيام بهما بغض النظر عن النتيجة. وربما يكون معنى الآية أن الإنسان إذا أدى واجبه بدعوة الناس إلى الإيمان وبذل جهده ولم يوفق فإنه لا يتحمل بعد ذلك إلا المسؤولية عن نفسه. وهناك صورة أخرى لأولوية اصلاح النفس تتعلق بجانب حماية النفس من أمراض المجتمع بالابتعاد عن المجتمع وعزل النفس خوفاً من أحد أمرين: الأول الإصابة بعدوى الفساد وارتكاب الذنوب. والثاني الأذية الحاصلة من رؤية ومعاشرة أهل المعاصي.

وهذا تخلٍ واضح عن مسؤولية الإنسان المؤمن عن مجتمعه الذي لا يقل شأناً عن مسؤوليته عن نفسه. فالذين ذهبوا إلى هذا الأمر ظنوا أن هناك تعارضاً بين اصلاح النفس واصلاح الغير ولذا اختاروا اصلاح النفس على اصلاح الغير لكن الحقيقة أنه لا تعارض بينهما بل إن هناك تكاملاً بينهما فبقدر ما يسعى الإنسان لإصلاح الآخرين ويقدم نفسه بشكل عملي كنموذج بقدر ما يصلح نفسه ويوجد لها البيئة الصالحة لبنائها ونموها.

والذين يرون التعارض هم أناس محرومون من الرؤية الإسلامية الصحيحة للإسلام ودوره وللمؤمن ودوره، ليغدو الإسلام ديناً ذا نظرة ورؤية فردية فيما الحقيقة هي خلاف ذلك فإن للإسلام رؤية اجتماعية وإنسانية دون إهمال الجهة الفردية من حيث البناء والإصلاح. فالإسلام يريد بناء الفرد النموذجي والمجتمع النموذجي والإنسانية النموذجية، وكلها أهداف تتكامل وتتلاقى ولا تتعارض وتتضارب.

* حياة المجتمع – جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


([1]) سورة المائدة، الآية: 105.
([2]) نهج البلاغة، ج‏2، ص‏181.

للمشاركة:

الأكثر قراءة

اشترك ليصلك كل جديد

اكتب ايميلك في الأسفل