َِِورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تقسيم الجهاد من حيث أحكامه إلى عدة اقسام. فقد روى الكليني والشيخ الطوسي بطريق معتبر عن فضيل بن عياض وحفص بن غياث قال:
«سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الجهاد أسنة هو أم فريضة؟ فقال: الجهاد على أربعة أوجه فجهادان فرض وجهاد سنّة لا تقام إلاّ مع الفرض وجهاد سنّة فأما أحد الفرضين فمجاهدة الرجل نفسه عن معاصي اللّه عز وجل وهو من أعظم الجهاد ومجاهدة الذين يلونكم من الكفار فرض وأما الجهاد الذي هو سنّة لا يقام إلاّ مع فرض فإن مجاهدة العدوّ فرض على جميع الأمة ولو تركوا الجهاد لأتاهم العذاب وهذا هو من عذاب الأمة وهو سنّة على الإمام وحده أن يأتي العدو مع الأمة فيجاهدهم وأما الجهاد الذي هو سنّة فكل سنّة أقامها الرجل وجاهد في إقامتها وبلوغها وإحيائها فالعمل والسعي فيها من أفضل الاعمال؛ لأنها إحياء سنّة، وقد قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أُجورهم شيء»([1]).
والظاهر أن القسم الثاني (الفرض) يختلف عن القسم الثالث (السنّة). التي تقام مع الفرض ذلك أن الفرض هو الجهاد الدفاعي الذي يجب على جميع المسلمين رجالاً ونساءً. وفي جميع الأحوال مع وجود الإمام العادل أو عدم وجوده بخلاف القسم الثالث الذي هو الجهاد الابتدائي الذي يجب على الرجال بشروط معينة. من أهمها وجود الإمام العادل ووجوب الدعوة إلى الاسلام وإبلاغها قبل القتال. فقد روى الشيخ الطوسي عن طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن رجل دخل ارض حرب بأمان فغزا القوم الذين دخل عليهم قوم آخرون قال: على المسلم أن يمنع نفسه ويقاتل على حكم اللّه وحكم رسوله وأما أن يقاتل الكفار على حكم الجور وسنّتهم فلا يحلّ له ذلك»([2]).
ويؤكد هذا الخبر ما رواه الكليني في الكافي عن أبي عمرو الزهري عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قلت له: أخبرني عن الدعاء إلى اللّه والجهاد في سبيله أهو لقوم لا يحل إلاّ لهم ولا يقوم به إلاّ من كان منهم أم هو مباح لكل من وحّد اللّه عز وجل وآمن برسوله (صلى الله عليه وآله)؟ ومن كان كذا فله أن يدعو إلى اللّه عز وجل وإلى طاعته وأن يجاهد في سبيل اللّه. فقال: ذلك لقوم لا يحل إلاّ لهم ولا يقوم لك به إلاّ من كان منهم.
فقلت: من أولئك؟ فقال: من قام بشرائط اللّه عز وجل في القتال والجهاد على المجاهدين فهو المأذون له في الدعاء إلى اللّه عز وجل ومن لم يكن قائماً بشرائط اللّه عز وجل في الجهاد على المجاهدين فليس بمأذون له في الجهاد والدعاء إلى اللّه حتى يحكم في نفسه بما أخذ اللّه عليه من شرائط الجهاد»([3]).
كما روى الكليني في الكافي في وجوب الدعوة إلى الاسلام قبل القتال عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بعثني رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) إلى اليمن فقال: يا علي لا تقاتلن أحداً حتى تدعوه إلى الاسلام وأيم اللّه لأن يهدي اللّه عز وجل على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت ولك ولاؤه يا علي»([4]). ويفهم من الآيات الكريمة الدالة على وجوب الدعوة إلى اللّه بالحكمة والموعظة والصبر على أداء الرسالة وبلاغها. ومن سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) ان القتال الابتدائي لنشر الاسلام لا يلجأ إليه المسلمون إلاّ بعد استنفاد جميع الوسائل الأخرى الممكنة بحيث تقام الحجة البالغة ولا يبقى إلاّ الحاجز النفسي لدى الأعداء من قبول الدعوة والرسالة فيكون القتال الابتدائي لكسر هذا الحاجز النفسي المعبر عنه بالجحود. ولعل هذا هو السر في اشتراط الجهاد الابتدائي بحضور وإجازة الإمام العادل لأن تشخيص هذه الحالة يحتاج إلى خبرة ودراية ومعرفة كاملة بالأوضاع الاجتماعية وتقوى عالية وعدالة كاملة.
وللجهاد أحكام عديدة أخرى تتعلق باستخدام وسائل القتل كالسم والنار وأساليب القتال. ومن يجب عليه الجهاد كالرجال غير الضعفاء أو النساء في حالات خاصة. وبالغنائم وتقسيمها وإخراج الخمس منها وكيفية التعامل مع الأسرى من الاسترقاق أو المن أو الفداء عند الاثخان. أو جواز القتل قبل الاثخان والأمان وأوقاته وكذلك الفرق في المعاملة بين المشركين وأهل الكتاب والبغاة والفرار من الزحف. وغير ذلك من التفاصيل التي وردت في الكتب الفقهية. كما أن له آداباً في الشروع به وفي المبارزة وفي معاملة الأسرى في حال الأسر.
ومن النصوص البديعة في هذا الموضوع ما ورد عن مالك بن أعين قال: «حرّض أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس بصفين فقال: إن اللّه عز وجل قد دلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم ويشفى بكم على الخير الايمان باللّه والجهاد في سبيل اللّه وجعل ثوابه مغفرة للذنب ومساكن طيّبة في جنات عدن وقال عز وجل: ﴿إن اللّه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص﴾ فسوّوا صفوفكم كالبنيان المرصوص فقدّموا الدارع وأخروا الحاسر وعضّوا على النواجذ فإنه أنبى للسيوف عن الهام والتووا على أطراف الرماح فإنه أمور للأسنّة وغضّوا الابصار فإنه أربط للجاش واسكن للقلوب وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل وأولى بالوقار ولا تميلوا براياتكم ولا تزيلوها ولا تجعلوها إلاّ مع شجعانكم؛ فإن المانع للذمار والصابر عند نزول الحقايق هم أهل الحفاظ.
ولا تمثّلوا بقتيل وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا ستراً ولا تدخلوا داراً ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم. إلاّ ما وجدتم في عسكرهم ولا تهيجوا امرأة بأذىً وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم. فإنّهن ناقصات القوى والأنفس والعقول. وقد كنا نؤمر بالكف عنهنّ وهنّ مشركات وإن كان الرجل ليتناول المرأة فيعير بها وعقبه من بعده.
واعلموا أن أهل الحفاظ هم الذين يحتفون براياتهم ويكتنفونها. ويصيرون حفافيها ووراءها وأمامها ولا يضيّعونها لا يتأخرون عنها فيسلموها ولا يتقدمون عليها فيفردوها.
رحم اللّه امرأً واسى أخاه بنفسه ولم يكل قرنه إلى أخيه. فيجتمع عليه قرنه وقرن أخيه فيكتسب بذلك اللائمة ويأتي بدناءة وكيف لا يكون كذلك. وهو يقاتل الاثنين وهذا ممسك يده قد خلّى قرنه على أخيه هارباً منه ينظر إليه؟ وهذا فمن يفعله يمقته اللّه فلا تتعرضوا لمقت اللّه فإن ممركم إلى اللّه وقد قال اللّه عز وجل: ﴿قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذن لا تمتعون إلاّ قليلاً﴾ وأيم اللّه لئن فررتم من سيوف العاجلة لا تسلمون من سيف الآجلة فاستعينوا بالصبر والصدق فإنما ينزل النصر بعد الصبر فجاهدوا في اللّه حق جهاده ولا قوة إلاّ باللّه»([5]).
دور أهل البيت (عليهم السلام) في بناء الجماعة الصالحة، السيد محمد باقر الحكيم