يحتلُّ ذكر الله تعالى مكانة سامية في الإسلام، وهو واحد من أهم مصاديق العبادة لله تعالى، بل المصداق الأمثل لها، فالذكر هو دُرَّة العبادة وسَنامها الأعلى.
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “مَـنْ ذَكَـرَ اللّهَ ذَكَـرَهُ”.
معادلة أخرى يكشف الإمام أمير المؤمنين (ع) النقاب عنها مفادها واضح: مَن ذكر اللهَ ذكره اللهُ. وهذا ما نَصَّ الله تعالى عليه في كتابه الكريم إذا قال: “فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ”﴿152/ البقرة﴾.
وإنه والله لمن أعظم ما يتفضَّل الله به على عبده أن يذكره حين يذكره، فيجعل ذكره له مكافئاً لذكره له، العبد وهو فقير حقير مسكين، لا يعدو أن يكون ذرة من ذرّات هذا الوجود حين يذكر اللهَ يذكره الله العلي الكبير خالق كل الوجود والمتفضل عليه.
ثُمَّ إنَّ هاهنا أموراً ينبغي الإشارة إليها:
أولاً: يحتلُّ ذكر الله تعالى مكانة سامية في الإسلام، وهو واحد من أهم مصاديق العبادة لله تعالى، بل المصداق الأمثل لها، لأن العبادة ذاتها ذكر لله وثناءعليه وتمجيد لصفاته، وخضوع بين يديه، وامتثال لأوامره، وسؤال منه بالدعاء تارة، وبالحال تارة أخرى، فالذكر هو دُرَّة العبادة وسَنامها الأعلى.
ثانياً: مِمّا لا شَكَّ فيه أن الذِّكر حاجة للذاكر لا للمذكور، فما بين المخلوق والخالق يختلف عما بين المخلوق والمخلوق، فأنت حين تذكر شخصاً آخر ففائدة ذكرك له ترجع إليه عادة، أما ذكر العبد لله فعائده إلى العبد لا إلى الله، إن العبد يحتاج إلى الاتصال بالله وليس العكس، العبد فقير والله الغني، وللعبد حاجات روحية ومعنوية لا يحصل عليها إلا بذكر الله تعالى، ذكر الله هو الطاقة التي تمدُّه بالقُوَّة والثبات والعزم والتصميم والصبر، وبذكر الله تعالى يواجه ما يحدق به من مخاطر، ويتجاوز ما يقع عليه من مصائب، وبذكر الله يثبت أمام عدوه.
لاحظ معي قارئي الكريم في أي سياق جاء الأمر من الله في كتابه بالذكر، قال تعالى: “فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴿152﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴿153﴾ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ﴿154﴾ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴿155﴾ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴿156﴾ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴿157/ البقرة﴾ في هذا السياق يأتي الذكر كحاجة مُلِحَّة للعبد، خصوصاً حين يواجه الأزمات والمُلمات، إذ لا يُنجيه منها، ولا يخفِّفِ من وطأتها عليه إلا الله تعالى.
ويجب أَلَّا يغيب عنك قارئي الكريم أن آثار الذكر لا تقتصر على الآثار النفسية والمعنوية، إن الذكر الحقيقي يصون العبد من الوقوع في براثن المعاصي والشهوات، ويعتبر الذكر من أعم وسائل تزكية النفس وتنمية فضائلها الأخلاقية، بل إن آثاره تتجاوز ذلك إلى آثار مادية عملية، فكم من عقدة انحلَّت بذكر الله، وكم من مريض شُفِي بذكر الله، وكم من ضيق انفرج بذكر الله، هذا أمر لا يُنكره مؤمن.
ثالثاً: إن ذكر الله ليس لفظاً باللسان، إنما هو انفعال القلب معه أو بدونه، والشعور بالله ووجوده، والتأثر بهذا الشعور تأثراً ينتهي إلى الطاعة في حَدِّه الأدنى، وإلى رؤية الله وحده ولا شيء غيره لمن يهبه الله الوصول ويذيقه حلاوة اللقاء، هذه هي حقيقة الذكر، وقد اتفق العلماء أن الذكر ذكران: ذكر بعد نِسيان: كما لو نسيتَ قارئي الكريم أين وضعتَ قَلَمك ثم ذكرته بعد ساعة، وذكر عن حضور: ويعني عدم الغَفلة عن الشيء بتاتاً بل يظل ذلك الشيء حاضراً في فكرك وقلبك لا يبارحه. وهذا هو المراد بالذكر، فأما الذكر باللسان فهو من أدنى مراتب الذكر، فرُبَّ شخص يتمتم لسانه بالذكر وقلبه غافل عن الله تعالى فهذا الذكر لا أثر له، إنما هو لقلقة لسان وحسب.
الذكر الحقيقي الذي يؤثِّر في حياة الذاكر هو ذاك التوجُّه القلبي الخالص إلى الله، هو الانقطاع عَمّا سِوى الله إليه، وهذا الذي جاء في المناجات الشعبانية المباركة: “اِلـهي هَبْ لي كَمالَ الانْقِطاعِ اِلَيْكَ، وَأَنِرْ اَبْصارَ قُلُوبِنا بِضِياءِ نَظَرِها إِلَيْكَ، حَتّى تَخْرِقَ أَبْصارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إِلى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ، وَتَصيرَ أَرْواحُنا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ”.
وهذا ما أكَّدت عليه النصوص الشريفة، من ذلك ما أوصى به رسول الله (ص) عَلِياً (ع) حيث قال: “ثَلاَثٌ لاَ تُطِيقُهَا هذِهِ اَلْأُمَّةُ اَلْمُواسَاةُ لِلْأَخِ فِي مَالِهِ، وَإِنْصَافُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِهِ، وَذِكْرُ اَللَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَيْسَ هُوَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَاَلْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّهُ وَأَللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَكِنْ إِذَا وَرَدَ عَلَى مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ خَافَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهُ وَتَرَكَهُ”.
رابعاً: كيف يذكر اللهُ من يذكره؟
إن ذكرنا لله استحضارنا لوجوده وهيمنته على الكون وعدم غفلتنا عنه بحال من الأحوال، أما ذكر الله لنا فيكون بمزيد من الرحمة، والإجابة، وتيسير الأمور، وتسبيب الأسباب، والعون، والتسديد، والهداية، والرعاية. وسوى ذلك مما يحتاجه العبد من الله تعالى.
خاتمة: الظروف الحَرِجة التي نَمُرُّ بها يجب أن نستعين عليها بذكر الله تعالى، ذكره على كل حال، باللجوء إليه، والاستغاثة به، وهو تعالى مُغيث من استغاثه، وناصر من استنصره.
بقلم الباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي