اليوم إذ تزفّ غزّة ولبنان قوافل الشهداء، من الذين ارتقوا على طريق القدس دفاعًا عن وطنهم وكرامة شعبهم وتحرير بلادهم من العدوان الصهيوني، ومن أجل عودة الحرية والحياة والنماء والازدهار لبلادهم.
اليوم إذ توفرت الفرصة لأن تشهد الساحة الإسلامية بل الساحة العالمية وحدة المذاهب والأديان مستنكرة ما يتعرض له «الإنسان» من ظلم الظالمين وقسوة المتجبرين .. نستذكر ما قاله الشهيد مرتضى مطهري قبل نصف قرن عن الشهيد والشهادة، وكأنه حديث اليوم.
لقد جاء ذلك في محاضرة ألقاها في طهران في ليلة عاشوراء الحسين بن علي(ع)، وطبعت تحت عنوان «شهيد يتحدث عن شهيد». جاء في مقدمة المترجم:
«الحديث عن الشهادة والشهيد لا يمكن أن يصاغ بعبارات علمية ولا بمعادلات رياضية.. إذ إنه حديث «الروح» لا حديث «العقل»…
التحليلات الفلسفية والعلمية والعقلية لا تستطيع أن تخلق الإنسان المجاهد، ولا بمقدورها أن تبعث في الموجود البشري اندفاعًا نحو الاستشهاد.
الشهيد إنسان ارتفعت روحه إلى مستوى الشهادة.. وتحررت روحه من قيود الشهوات الهابطة، فأضحى منطقة منطقًا جديدًا قد لا يفهمه «العلماء» و«الفلاسفة» و«عقلاء القوم!».
حديث الشهيد والشهادة لا يفمهم إلا من يسير على خط الشهادة، ولا يتذوّقه إلا من سما وتحرّر من ربقة البطن والفرج والأهواء الدنيئة.
وحديث الشهيد والشهادة.. أيضًا، لا يمكن أن يكون صادقًا مخلصًا إلاّ إذا انطلق من قلب إنسان وهب نفسه لرسالته، وكسر إطار ذاتياته لينصهر في هدفه السامي الكبير.
وهذا الحديث يحلو ويصدق ويتعمق أكثر.. لو صدر عن قلب إنسان وهب نفسه لهدفه السامي حتى آخر لحظة من حياته.
يحلو ويصدق ويتعمق أكثر فأكثر إذا صدر عن قلب إنسان سقط مضرّجًا بدمه على طريق رسالته الكبرى.
وهذا الذي بين يدي القارئ ترجمة لحديث عن الشهيد والشهادة. أُلقي في «ليلة الشهيد والشهادة» وصدر عن قلب إنسان قضى حياته على طريق الشهادة. أي على طريق الذوبان في الهدف السامي، والتفاني من أجل تحقيق هذا الهدف. هذا الحديث ألقاه الأستاذ مرتضى مطهري شهيد الثورة الإسلامية في إيران.
وهو – كما قلت – حديث الروح قبل أن يكون حديث العقل..وحديث الروح هذا أقدمه إلى الذين يستطيعون أن يتذوقوه.. وإلى الذين يستطيعون من خلال سطوره أن يستشمّوا رائحة الشهادة التي فاحت في سماء إيران فأسفرت عن ولادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية».
أما مايقوله الشهيد مطهري حول هذا الموضوع فقد جاء فيه:
« العملية التي تؤدي إلى الشهادة أي إلى الموت الواعي على طريق الهدف المقدس، قد اتخذت في الإطار الإسلامي شكل مبدأ هو “الجهاد”.
ولو أردنا أن نوضح هذا المبدأ، فثمة أسئلة متعددة تطرح نفسها على بساط البحث منها:
هل إن ماهية هذا المبدأ دفاعية أو هجومية؟وإن كانت دفاعية، فهل ينحصر في إطار الدفاع عن الحقوق الشخصية والقومية، أم يتسع نطاقه ليشمل الحقوق الإنسانية، كالحرية والعدالة ..؟
وهل التوحيد جزء من الحقوق البشرية والإنسانية أم لا؟
وهل مبدأ الجهاد يتنافى أساسا مع حق الحرية أم لا؟
الإجابة على هذه الأسئلة تتطلب الخوض في بحوث وتفصيلات شيقة مفيدة لا مجال لها في حديثنا هذا .. فنكتفي بالقول:
إن الإسلام ليس بالدين الذي يدعو الفرد إلى إدارة خده الأيسر إن صفع على خده الأيمن، وليس بالدين الذي يقول: ما لله لله، وما لقيصر لقيصر .. وليس بدين يفتقد الهدف ويعدم خط الدفاع والدعوة .
آيات عديدة في القرآن الكريم تذكر ثلاث مصطلحات مقرونة مع بعضها هي: (الإيمان ) و (الهجرة) و (الشهادة)..
إنسان القرآن موجود مرتبط بالإيمان ومتحرر من كل شيء آخر، وهو الموجود الذي يهاجر لينقذ إيمانه، ويجاهد لإنقاذ إيمان المجتمع، أو بعبارة أخرى، لإنقاذ المجتمع من براثن الكفر والشرك.
يطول بنا الحديث لو استعرضنا الآيات والروايات الواردة في هذا الحقل. لذلك نكتفي بإلقاء الضوء على جمل معدودات من إحدى خطب أمير المؤمنين في نهج البلاغة:
« أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَتَحَهُ اللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَ هُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى وَ دِرْعُ اللَّهِ الْحَصِينَةُ وَ جُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ الذُّلِّ وَ شَمِلَهُ الْبَلَاءُ وَ دُيِّثَ بِالصَّغَارِ وَ الْقَمَاءَةِ وَ ضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالْإِسْهَابِ وَ أُدِيلَ الْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ وَ سِيمَ الْخَسْفَ وَ مُنِعَ النَّصَفَ».
فالجهادُ، باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه.. نعم لخاصة أوليائه.. وهي كلمة لها مدلولها العميق..
باب الجهاد غير مفتوحة بوجه الجميع.. لأنّ وسام المجاهد لا يتقلده إلا من كان لائقًا لذلك.. وأولياء الله غير لائقين بأجمعهم لتقّلد هذا الوسام، بل.. خاصة أولياء الله.
ورد في القرآن : إن للجنة ثمانية أبواب.
ولكل فئة طوت مرحلة معينة من مراحل تكاملها باب تدخل منها الجنة في الحياة الأخرى حسب درجتها ومنزلتها، أي حسب ما طوته من أشواط على طريق إيمانها وعملها وتقواها في هذه الحياة.. فذاك العالم تجسد ملكوتي لهذا العالم.
الباب التي يدخل منها المجاهدون – إذن – هي الباب الخاصة لأولياء الله، يلجون منها لينالوا فوز القرب الإلهي.
والإمام يصف الجهاد بعد ذلك بأنه لباس التقوى.. والتقوى تعني «الطُّهر الحقيقي».. الطهر الحقيقي من كلّ الآثام.
من المعلوم أن جذور الآثام الروحية والخلقية هي الكبر والغرور والأنانية، ومن هنا فإن المجاهد الواقعي أتقى الأتقياء.
فربّ متّق طهر من الحسد، وآخر من الكبر، وآخر من الحرص، وآخر من البخل.. لكن المجاهد أطهر الطاهرين، لأنه ضحّى بكل وجوده، ولذلك اختصّ بباب من أبواب الجنة لا ينالها سائر الطاهرين.
مفهوم «درجات التقوى» يوضحه القرآن بجلاء في الآيت الكريمة: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ .
هذه الآية توضح مفهومين رائعين من المفاهيم القرآنية.
الأول: فلسفة الحياة وحقوق الإنسان. فالآية تقول: النِّعم خلقت للإنسان، والإنسان خلق للإيمان والعمل والتقوى. والإنسان يستطيع أن يتمتع بالنعم الإلهية إذا كان ملتزمًا بالحركة على الخط التكاملي، أي على خط الإيمان والتقوى والعمل الصالح.
الثاني: درجات الإيمان والتقوى، وعلماء الإسلام – انطلاقًا من هذه الآية وغيرها من النصوص – قسّموا مراتب التقوى إلى : العامة، والخاصة، وخاصة الخاصة.
وتقوى المجاهدين تقوى التضحية والفداء. والشهداء قدّموا كل ما يملكون مخلصين إلى الله تعالى، واختاروا لأنفسهم هذا «اللباس» من ألبسة التقوى.
ثم يصف الإمام الجهاد أنه «درع الله الحصينة وجُنته الوثيقة».
لو تربّت أمة مسلمة على روح الجهاد، وتسلّحت بهذا الدرع الإلهي، فلن تنثني أمام أعتى الضربات.
والدرع، لباس من حلقات حديدية يرتديه المقاتل كي يبطل مفعول الضربة على الجسم..
والجُنة، تحول دون وقوع الضربة على البدن.
فالأول عمله المناعة، والثاني: الدفاع.
وربما كان الإمام يشير في وصفه هذا إلى نوعين من الجهاد، جهاد وقائي يعطي للأمة مناعة من آثار الضربات المهلكة، وجهاد دفاعي يقف بوجه الضربات.
ثم يستعرض الإمام الآثار السلبية لترك الجهاد، والآثار السلبية التي تتحدث عنها العبارة جماعية لا فردية، أي ترتبط بالمجتمع لا بالفرد.
هذه الآثار السلبية عبارة عن:
أ – الذلة والمسكنة.
ب – الشدائد والمصائب: وهو خلاف ما يمكن أن يتصور في هذا المجال، فربّ أمة تترك الجهاد طلبًا لرغد العيش.. لكن الشدائد والمصائب تتوالى على مثل هذه الأمة.
ج – الإحساس بالحقارة النفسية
د – فقدان البصيرة والرؤية الصحيحة، وهذه مسألة تلفت النظر كثيرًا.
علي(ع) يجعل الجهاد طريقًا لتفتّح البصيرة وللرؤية الواضحة الصحيحة. النصوص الإسلامية التي تؤكد على أن البصيرة وليدة العمل صريحة وكثيرة.. لكن هذا النص أكثر صراحة، وذهب إلى أكثر مما ذهبت إليه النصوص الأخرى حيث اعتبر ترك الجهاد يؤدي إلى إسدال الحجب على القلب أو على الفهم الصحيح والرؤية الواضحة للأمور.
هـ – فقدان مركز القيادة، فالأمة التي تترك الجهاد لن تعود قادرة على حمل راية الإسلام والدعوة إلى الحقّ.
و – الحرمان من إنصاف الآخرين، فالأمة ذات اعتبار ومكانة واحترام مادامت مجاهدة، وإن افتقدت روحها الجهادية فقدت شخصيتها ومكانتها فلا يراعى لها حق، ولا تُعامَل بإنصاف.
قال الرسول الكريم:
«الخير كلّه في السيف وتحت ظل السيف».
وقال أيضًا: «إن الله أعزّ أمّتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها».
وهذا يعني أن القدرة والقوّة لا تنفصلان عن الأمة الإسلامية، والإسلام دين القوة والقدرة ومدرسة تخريج المجاهدين.
يقول ويل ديورانت في «تاريخ الحضارة»: ليس كالإسلام دين في حثّ أتباعه على التزوّد بالقوة والمقدرة.
وحديث آخر عميق المغزى، روي عن النبي(ص) يقول: «من لم يغز ولم يحدّث نفسه بغزو مات على شعبة من النّفاق».
فالإنسان المسلم إما أن يعيش حياة الجهاد عمليًا أو على مستوى الأمل على الأقل. وبهذا المعيار يعرف صدق الإنسان وإخلاصه في إسلامه».
اللهم اجعلنا ممن يحافظ على دماء الشهداء وألعن وضاعف العذاب على المتخاذلين المهزومين الذين يحاولون النيل من شخصية هذه الكوكبة التي صدقت ما عاهدت الله عليه، فكانوا أحياء وإحيائيين.