منطق الاغتيالات لا يؤتي ثماراً استراتيجية في مضمار المعركة، حتى إن كان يترك فينا أثراً نفسياً بليغاً من جرّاء وداع قادة، من مثل السيد حسن نصر الله والقائد يحيى السنوار والسيد هاشم صفي الدين.
“إني والله، لو لقيتهم فرداً وهم ملء الأرض ما باليت ولا استوحشت، وإني من ضلالتهم التي هم فيها والهدى الذي نحن عليه لعلى ثقة وبيّنة ويقين وصبر، وإني إلى لقاء ربي لمشتاق، ولحسن ثواب ربي لمنتظر، ولكن أسفاً يعتريني، وحزناً يخامرني من أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها فيتخذوا مال الله دولاً، وعباد الله خولاً، والصالحين حرباً والفاسقين حزباً”. علي بن أبي طالب (ع).
منطق الاغتيالات لا يؤتي ثماراً استراتيجية في مضمار المعركة، حتى إن كان يترك فينا أثراً نفسياً بليغاً من جرّاء وداع قادة، من مثل السيد حسن نصر الله والقائد يحيى السنوار والسيد هاشم صفي الدين.
ويعكس مشهد استشهاد هؤلاء القادة الثلاثة في ميدان المعركة حقيقة موضوعية، هي وحدة ساحات المعركة والمصير، ضمن سياق حرب إبادة يتعامل فيها العدو مع أي عربي، بصفته هدفاً يكفل ضربه عبر كل الوسائل بقاء المشروع الصهيوني نافذاً، غير أن وقائع استشهادهم تعكس قدرة الإنسان العربي على صنع البطولة إذا تناولنا المنطق التاريخي وراءها؛ أي كيف يتحول المشهد من مجرد خبر أو سردية أو حكاية إلى مشهدية تاريخية تحمل دلائل ومقاربات يمتد فيها الماضي، وصولاً إلى الحاضر متأصِّلاً ومتمثِّلاً، ويعيد الحاضر فيها استدعاء الماضي وتمثٌّلَه بطرائق إبداعية خلّاقة.
المشهدية التاريخية، التي نحن في صددها ونعيشها يومياً، ليست الأولى في تاريخ البشرية، على رغم خصائص القادة الثلاثة الفريدة والاستثنائية، وليست الأخيرة، كما يبدو، لأن الواقع العربي يُثْبت، منذ السابع من أكتوبر من العام الماضي، في كل يوم، قدرته – دوناً عن غيره – على إنتاج البطولة، أي الفعل التاريخي ومشهديته. في مقدورنا أن نقارب بين القادة الثلاثة وزعماء تاريخيين من أمثال سيمون بوليفار، الذي أنزل بالاستعمار الإسباني مر الهزيمة، أو ماو تسي تونغ الذي قضى على الاستعمار الياباني وحلفائه المحليين، أو هو تشي منه وجنراله جياب اللذين دحرا الاستعمارَين الفرنسي والأميركي، أو تشي غيفارا الذي حارب أعتى جيوش العالم في عدة بلدان، أو حتى سلفادور ألّيندي الذي ارتقى حاملاً رشاشه بعد معركة دامية مع عملاء الإمبريالية.
لكن السيد نصر الله والقائد السنوار والسيد صفي الدين أكبر من هؤلاء بسبب ما قدّموه إلى العرب والإنسانية في حقبة تاريخية أكثر صعوبة وقسوة ومليئة بالتحديات العصيبة، وتطغى عليها حالة جذر لقوى التحرر على صعيد عالمي. لكن تاريخ العرب مليء بمثل نماذج فريدة كهذه، يمكن من خلالها قراءة الماضي في الحاضر والعكس، منها – على سبيل المثال لا الحصر – قصتا استشهاد جعفر (الطيار) والعباس بن علي (أبي الفضل) عليهما السلام، ولكن قصة استشهاد أبي الفضل فيها من التشابه مع وقائع استشهاد القادة الثلاثة ما يسمح لنا بإقامة مقاربة كهذه.
بعد أن فقدَ العباس معظم أهله ورفاقه خلال معركة كربلاء توجَّه، بطلب من الإمام الحُسين (ع)، ليجلب لمن تبقى من أهل بيت النبي (ص) ماءً يروي عطشهم، لكنه قوبل بهجوم العشرات من جيش العدو، وبُترت يمينه ويساره بعد قتال مرير، وحضن راية الحُسين (ع) بجسده ورفعها عالياً لتقابله عشرات السهام ويرتقي أخيراً إلى ربه شهيداً ناصراً للمستضعفين والحق في أكمل هيئته، ومنتصراً على الظالمين والباطل في أكمل هيئته.
لقد قاتل السيد نصر الله والقائد السنوار والسيد صفي الدين كما قاتل أبو الفضل العباس (ع)، واستشهد ثلاثتهم مثلما استشهد، خلال مسيرتهم في طريق التحرير لينتزعوا للعرب الحياة والشرف وقطعة من الوجود سُلبت منهم، وليُعيدوا إلى البشر أجمعين إنسانيتهم المستلبة والمغتربة عنهم.
ودَّع السيد نصر الله أقرب الأقربين إليه شهداء في طريق القدس قبل أن يلتحق بهم منتصراً على العدو إن شاء الله، كما ودَّع العباس أقرب الأقربين إليه شهداء في طريق الحق قبل أن يلتحق بهم منتصراً على العدو في معركة التاريخ. وأُصيب القائد السنوار كما أُصيب العباس، وظل يقاتل حتى بعد نفاد ذخيرته بعصا خشبية وأنزل بالعدو هزيمة ساحقة، وارتقى أخيراً إلى ربه منتصراً على الظلم والباطل في أكمل هيئته.
وكما كان أبو الفضل العباس (ع) نعم الأخ والناصر والمعين للإمام الحُسين (ع)، كان السيد صفي الدين للسيد نصر الله، سار على مساره واستشهد في ركابه بالطريقة والوسيلة نفسيهما في المشهد ذاته.
استُهدِف السيّد نصر الله ورفاقه أسفل حارة حريك بعشرات الأمتار في الضاحية الجنوبية لبيروت بما يزيد على 80 طناً من القنابل الخارقة للتحصينات، واستُهدف القائد السنوار في أحد أحياء مدينة رفح جنوب غزة بالطيران المُسيَّر والدبابات والمدفعية والرصاص، واستُهدف السيد صفي الدين ورفاقه أسفل منطقة المريجة بعشرات الأمتار في الضاحية الجنوبية لبيروت بما هو أقوى من استهداف السيد نصر الله. استشهد ثلاثتهم في ميدان المعركة، بعد أن فشل الصهاينة في العثور عليهم لأعوام.
لم يفرّ السيّد نصر الله والسيد صفي الدين خارج لبنان كما إدَّعى الإعلام الغربي في ترداده السردية الصهيونية على مدار ثلاثة شهور مضت. وعلى رغم توافر إمكان خروجهما من البلد فإنهما اختارا منذ بداية مسيرتهما أن يظلّا وسط أهلهما ورفاقهما ويرتقيا شهيدين وهما يديران المعرك ويوجّهان المجاهدين نحو النصر الموعود.
وبالمثل، لم يفر القائد السنوار خارج غزة نحو مصر كما روَّج الإعلام الغربي في ترداده السردية نفسها، ولم يكن يحتمي خلف المستوطنين الأسرى داخل الأنفاق كما ادّعوا، كان فوق أرضه يقاتل وسط شعبه، وعثر عليهم حتى قبل أن يعثروا عليه، وقاتلهم حتى الرمق الأخير، وارتقى شهيداً وهو يدير المعركة ويوجّه بالمثل المجاهدين نحو النصر الموعود.
في هذه المشهدية التي تعكس معركة الحق كله ضد الباطل كله، واجه السيد نصر الله والقائد السنوار والسيد صفي الدين، باسم الأمة العربية وأحرار العالم والتاريخ، أسوأ ما أنجبت البشرية من خطيئة. نعم، واجهوا أحقر البشر وأقساهم وأقذرهم وأكثرهم وحشية، من يشيعون الإبادة في جميع الأراضي العربية المحتلة، دفاعاً عن المستضعفين والمظلومين، في عالم أصم وأبكم وأعمى لا يكترث لأبشع ما مارسه الإنسان على مدار تاريخه بأكمله، وعلى مرأى ومسمع من البشرية الثابتة كالحجر المائل إلى السقوط في فوهة الوحشية مرة أخرى.
إن مشاهد الدمار في لبنان وغزة، ومشهد قصف كل من السيد نصر الله في حارة حريك والسيد صفي الدين في منطقة المريجة، ومشهد قتال القائد السنوار، أقل من دقيقة، ليست مقاطع من فيلم سينمائي، وليس هؤلاء القادة المقاتلون الاستشهاديون أبطالاً خارقين أو أسطوريين، وإنما هي مشهدية تاريخية، وهؤلاء القادة واقع حي ينبض ويقاتل حتى الرمق الأخير ليجلب إلى الأمة شرفها وإلى البشر إنسانيتهم.
ولم يكن هؤلاء القادة وحيدين في ميدان المعركة، وإنما قاتلوا ومن خلفهم ساحات متحدة، في فلسطين ولبنان والعراق واليمن وسوريا وإيران، وكانوا محاطين بقلوب أحرار العالم، الذين لن يحوّلوا هؤلاء القادة إلى مجرد رموز تاريخية، وإنما إلى مشهدية تاريخية حيَّة تنبض وترشد وتوجّه أفعال الأفراد والأمة والإنسانية في مسار التحرر والانعتاق.
في هذه المشهدية، التي تعكس إفلاس قيادة العدو الصهيوني ورعبها، لم يواجه السيّد نصر الله والقائد السنوار والسيد صفي الدين حفنة من المتوحشين فحسب، وإنما النظام العالمي بأكمله أيضاً. واجهوا أقوى الترسانات العسكرية في العالم، وأكثرها دموية. واجهوا “إسرائيل” والولايات المتحدة ودول الغرب الأوروبي مجتمعةً، وطائرات وجنود صهاينة ومرتزقة من أصقاع الأرض، وأفتك أنواع السلاح التي اخترعها الإنسان. هذه الوحوش ربيبة هذا النظام العالمي المضمحل وصنيعته، وهي أكثر الصور التي تعبّر عن جوهره وطبيعته وحقيقته، وأكثر الصور التي تعكس أفوله وانطوائه.
في هذه المشهدية، قاتل قادتنا الثلاثة دفاعاً ونيابة عن العرب، الذين يشهدون الإبادة في فلسطين ولبنان مغمضي الأعين بفعل الحكومات المُطبّعة، التي تقهرهم وتشتتهم وتودي بهم إلى حالة سُبات تاريخي، في ظل لحظة تاريخية استثنائية في حياة الأمة العربية والعالم، مليئة بالأفعال التاريخية البطولية وعطشى إلى المزيد. أنبل وأنقى وأقوى وأعظم وأطيب وأكرم وأتقى من فينا كبشر وأكثرنا ثورية وإنسانية، قاتلوا أحقر وأقذر وأضعف وأدنى وأقسى وأخس من فينا كبشر وأكثرنا حيوانية ووحشية. الإنسانية تواجه الوحشية. هذا هو الفعل التاريخي الأصيل، وهذه مشهديته التي لن تمحوها السنون والعقود والقرون.
إن صمود قادتنا الثلاثة على مدار أعوام وعقود وثباتهم على طريق الحق لن يخلده التاريخ وحسب، وإنما هو ذاته، وما يحمله من أفعال بطولية، يوجّه أيضاً مسار حركة التاريخ لمصلحة الأمة العربية والحضارة الإنسانية.
إن السيّد نصر الله والقائد السنوار والسيد صفي الدين، ورفاقهم وأبناءهم السائرين في الطريق نفسه، لا يعلموننا كيف يمكن أن يساهم الفرد في صناعة التاريخ فحسب، وإنما أيضاً كيف يمكن للفرد أن يحدد التاريخ ويوجّه مساره بذاته، ويبعث في أمة بأكملها الحياة والكرامة والشرف. أثبت لنا القادة الثلاثة قدرة الشعب العربي على صنع المعجزة البشرية، أي البطولة في زمن الخضوع والهوان والمذلة، وقدرة الإنسان العربي على إلحاق الهزيمة والعار بكامل النظام العالمي، السائر في طريقه إلى الاضمحلال.
لبَّت المقاومة في لبنان، وعلى رأسها حزب الله، نداء الشعب الفلسطيني ومقاومته الأبيَّة، وكان منطلق الحزب في طوفان الأقصى إسناد غزة الصامدة، على رغم التصعيد الأخير في معركة خيبر والدفاع عن لبنان. هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن هذه المعركة هي كربلاء العصر. والآن، باتت كل الحقائق واضحة جليَّة، لم يعد في مقدور الناس أن يقفوا في منتصف الطريق، فإما أن نقاوم وننتصر، وإما أن نخضع وننهزم.