تُعتبر ولادة السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب (عليها السلام) مناسبةً عظيمةً ومشهودًا لها في تاريخ الإسلام. فهي ليست مجرد ولادة شخصية بارزة، بل هي ولادة رمز من رموز الفخر والكرامة في الأمة الإسلامية.
يزخر تاريخنا الإسلامي الأصيل المرتبط بأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) بشخصيات عظيمة من النساء اللواتي كان لهنَّ أثر عظيم وبصمات واضحة على صفحات هذا التاريخ الشريف، وذلك لما ضمت تلك الشخصيات بين جوانحها من تقوى وتضحية وصبر وشجاعة فاضت وتدفقت على الأمة فضلاً وكرماً، وكانت زينب بنت أمير المؤمنين (عليهما السلام) أحد أبرز تلك الشخصيات.
بذرة طاهرة:
ولدت العقيلة (عليها السلام) في الخامس من جمادى الأولى سنة خمسة أو ستة للهجرة، وقيل في أوائل شهر شعبان سنة ستة للهجرة، وقيل غير ذلك.
أبوها أمير المؤمنين وسيد الوصيين (عليه السلام)، وأمها سيدة نساء العالمين وبضعة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ومن هذين الأصلين المقدسين انبثقت هذه البذرة الطاهرة، وقد روي في تاريخ ولادتها أنها لما ولدت، جاءت بها أمها الزهراء (عليها السلام) إلى أبيها أمير المؤمنين (عليه السلام) وقالت له: سَمِّ هذه المولودة، فقال (عليه السلام): ما كنت لأسبق رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولما جاء النبي (صلى الله عليه وآله) قال: ما كنت لأسبق ربي تعالى، فهبط جبرائيل يقرأ على النبي السلام وقال له: سمِّ هذه المولودة (زينب)، فقد اختار الله لها هذا الاسم.. ثم أخبره بما يجري عليها من المصائب، فبكى النبي (صلى الله عليه وآله) وقال: من بكى على مصاب هذه البنت كان كمن بكى على أخويها الحسن والحسين (عليهما السلام) .
بيت كريم:
ولما بلغت زينب العقيلة (عليها السلام) مبالغ النساء، زوّجها أمير المؤمنين (عليه السلام) ابن أخيه عبد الله بن جعفر الطيار على صداق أمها فاطمة (عليها السلام)، أربعمائة وثمانين درهما، ووهبه الصداق من خالص ماله.
وكان عبد الله من الذين اشتهروا بكريم النسب وعمق الإيمان، وعُرف بالسخاء والجود، حتى لُقِّبَ ببحر الجود، وهو أول مولود ولد في الإسلام في أرض الحبشة، وقد روي أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما مات جعفر الطيار، دعا الحالق فحلق رؤوس أبنائه، وقال (صلى الله عليه وآله): (أما محمد فيشبه عمنا أبا طالب، وأما عبد الله فيشبه خَلقي وخُلُقي) ثم أخذ بيد عبد الله وقال: (اللهم اخلف جعفرا في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه) ثلاث مرات، فجاءت أسماء تذكر زوجها جعفرا، فقال (صلى الله عليه وآله) لها: (العيلة تكافئين عليها، وأنا وليهم في الدنيا والآخرة)[1].
وقد روي أنه قد ولد لزينب العقيلة (عليها السلام) من الأولاد: عليا وعونا الأكبر وعباسا وأم كلثوم، أما علي – وهو المعروف بالزينبي- ففي ذريته الكثرة والعدد والسلالة الباقية، وأما عون الأكبر فهو من الشهداء الذين قتلوا بين يدي الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء، وهو مدفون مع آل أبي طالب في الحفيرة مما يلي رجلي الإمام الحسين (عليه السلام)، وقد قيل إن لزينب (عليها السلام) من الأولاد أيضا: جعفرَ الأكبر ومحمداً.
فضل وكرامة:
عاشت زينب العقيلة (عليها السلام) وترعرعت في كنف بيت طاهر لا يُذكر فيه إلا الله تعالى، ولا يُؤتى فيه إلا الصالحات من الأعمال، بيت أداره علي بن ابي طالب (عليه السلام) بعلمه وحكمته، وملأت أحناءه فاطمة الزهراء (عليها السلام) بعطفها وحنانها، ورافقها فيه سيدا شباب أهل الجنة (عليهما السلام)، وحقّ للذي يتربى في مثل هذا البيت أن يكون في أعلى مدارج الكمال الإنساني.
لذلك جاءت تلك الصديقة الجليلة على درجات عالية من الشرف والكرامة، وورد في حقها الكثير من المناقب والفضائل، حتى لُقِّبت بالصديقة الصغرى، وعقيلة بني هاشم، والموثقة والعارفة والكاملة وعابدة آل علي، وصاحبة الشورى.
قال لها الإمام زين العابدين (عليه السلام) يوما: (أنت بحمد الله عالمة غير معلمة وفهمة غير مفهمة)[2].
وروي أنه قد كان لها نيابة خاصة عن الحسين (عليه السلام)، وأن الناس كانوا يرجعون إليها في الحلال والحرام حتى بَرئ زين العابدين (عليه السلام) من مرضه.[3]
علاقة السيدة زينب بأخيها الحسين (عليهما السلام):
العلاقة الأخوية وروابط المحبة بين زينب والإمام الحسين (عليهما السلام) كانت علاقة وثيقة امتازت بمزايا فريدة، وليس من المبالغة القول بأنه: لا يوجد ولم يوجد في العالم أخ وأخت تربطهما روابط المحبة والوداد مثل الإمام الحسين وأخته السيدة زينب (عليها السلام)، وكيف لا يكونان كذلك وقد تربيا في حجر واحد وتفرعا من شجرة واحدة، ولشدة تعلقها بأخيها الحسين فهي منذ صغرها لا تهدأ حتى ترى أخيها الحسين شاخصاً بين عينيها!!
فحين ولدتها أمها الزهراء (عليها السلام) روي ذهبت بها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقالت: يا أبتاه أرى شيئا عجيبا من زينب، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): وماذا هناك؟ قالت (سلام الله عليها): إن زينب لا تهدأ حتى يدخل الحسين (عليه السلام) إلى البيت، فإذا دخل فإنها تتجه بنظرها نحوه وتطيل ذلك، فبكى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند سماعه ذلك وقال: إن جبرئيل أخبرني بما يجري على الحسين وزينب (عليهما السلام).
ولما تزوجت السيدة زينب (عليها السلام) ابن عمها عبد الله بن جعفر رضوان الله تعالى عليه ذهب إليها الحسين (عليه السلام) وقد ضاق صدره من فراقها فطرق الباب ودخل، فوجدها نائمة في صحن دارها وقد طلعت عليها الشمس فوقف يظللها فلما أفاقت وجدته واقفا يرد حرارة الشمس عنها فقالت: أخي يا أبا عبد الله تظللني عن حرارة الشمس يا نور عيني … حفظت زينب (عليها السلام) هذا الموقف في قلبها حتى كان يوم عاشوراء فوقفت فوق جسده الشريف تظلله عن حرارة الشمس.
فزينب تعرف أخاها بأنه سيد شباب أهل الجنة وريحانة الرسول (صلى الله عليه وآله) وتعلم بأن الله تعالى قد أثنى على أخيها في آيات كثيرة من القرآن الكريم، كآية المباهلة، وآية المودة، وآية التطهير، وسورة (هل أتى)، وغيرها من الآيات والسور.
وهكذا يعرف الإمام الحسين (عليه السلام) أخته السيدة زينب حق المعرفة، ويعلم فضلها وخصائصها، فقد جاء في التاريخ: إن الإمام الحسين (عليه السلام) كان يقرأ القرآن الكريم – ذات يوم – فدخلت عليه السيدة زينب، فقام من مكانه وهو يحمل القرآن بيده، احتراماً لها.
وقد تجسدت هذه العلاقة بأروع ما يكون في عاشوراء حتى كانت روابط الأخوة بينهما في عاشوراء من أوثق عرى الإيمان والتضحية والفداء ما لا نجد له نظيراً في التأريخ القديم ولا الحديث، وليس ذلك إلا لقوة إيمان كل منهما (عليهما السلام)
وكيف لا والحسين سيد شباب أهل الجنة وهي (عليها السلام) عقيلة الطالبيين والهاشميين.
وما زالت هذه العلاقة الأخوية الرائعة تتجدد في نفوسنا كل عام ونعيش معها ونستذكرها ونستلهم منها معنى الأخوة الحميمة، فسلام على تلك الأخت الصابرة التي قلبت بكفيها جسد أخيها غير مدهشة، لم تذهلها الرزايا التي تميد منها الجبال، فشخصت ببصرها إلى السماء؟ وهي تقول بحماسة الإيمان وحرارة العقيدة: اللهم تقبل منا هذا القربان.
علم وعفة وعبادة:
ما عسى الواصف أن يصف العقيلة زينب (عليها السلام) فيما تمتلكه من عفة وزهادة، وما عسى المادح أن يذكر ما كان يفيض عنها من علم وعبادة، بعد أن ذكر التاريخ أنها لم تكن تفارق صلاتها المستحبة حتى في أحلك الظروف وأصعب الأحوال.
نقل الفاضل القائيني، عن مولانا السجاد (عليه السلام) أنه قال: إن عمتي زينب (عليها السلام) مع تلك المصائب والمحن النازلة بها في طريقنا إلى الشام ما تركت نوافلها الليلية. وفي بعض المنازل كانت تصلي من جلوس فسألتها عن سبب ذلك فقالت: أصلي من جلوس لشدة الجوع والضعف منذ ثلاث ليال.. لأنها كانت تقسم ما يصيبها من الطعام على الأطفال لأن القوم كانوا يدفعون لكل واحد منا رغيفا واحدا من الخبز في اليوم والليلة.
وروى الفاضل: أن الإمام الحسين (عليه السلام): لما وَدَّع أخته زينب (عليها السلام) وداعه الأخير قال لها: يا أختاه لا تنسيني في نافلة الليل.
وروي عن فاطمة بنت الحسين (عليهما السلام): وأما عمتي زينب (عليها السلام) فإنها لم تزل قائمة في تلك الليلة أي العاشرة من المحرم في محرابها تستغيث إلى ربها، فما هدأت لنا عين، ولا سكنت لنا رنة[4].
أما في علمها فقد روي أن لها (عليها السلام) مجلساً في بيتها أيام إقامة أبيها (عليه السلام) في الكوفة، تفسر فيه القرآن للنساء، وقد روت أخبارا كثيرة عن أمها الزهراء (عليها السلام)، كما روت عن أبيها وأخويها وعن أم مسلمة وأم هانئ وغيرهما من النساء.
أما في عفتها وشدة حجابها، فقد جاء عن يحيى المازني قوله: كنت في جوار أمير المؤمنين (عليه السلام) في المدينة مدة مديدة، وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته، فلا والله ما رأيت لها شخصا ولا سمعت لها صوتا، وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدها رسول الله (صلى الله عليه وآله) تخرج ليلا والحسن (عليه السلام) عن يمينها والحسين (عليه السلام) عن شمالها وأمير المؤمنين (عليه السلام) أمامها، فإذا قربت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنين (عليه السلام) فأخمد ضوء القناديل، فسأله الحسن (عليه السلام) مرة عن ذلك فقال (عليه السلام): أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب.
مصائب وأحزان:
تعرضت زينب العقيلة (عليها السلام) إلى مصائب ومحن وشدائد تشيب لهولها رؤوس الصبيان، فقد شهدت هذه الصديقة مصرع الأحبة والأولياء واحدا بعد واحد.. منذ شهادة أمها الزهراء (عليها السلام) مروراً على شهادة أبيها وأخيها الحسن (عليهما السلام)، وانتهاء بشهادة أخيها الحسين (عليه السلام) الذي آلمها فراقه كثيراً، مع ما صاحب ذلك من سبي وانتهاك حرمة.
ولكنها (عليها السلام) رغم ذلك، قابلت كل تلك المحن بصبر تلين دونه الجبال، وشجاعة مستقاة من أبيها (عليه السلام)، وحلم وحكمة نهلتها من أمها (عليها السلام)، فكانت تقف أمام طاغية عصرها تخاطبه بكلام لو سمعه السامع لم يصدق أنه كلام امرأة فُجِعتْ بمفارقة الأحباء، وسُبيت بين القفار على جمال بغير وطاء، حتى أسكتتْ بلاغتُها كلَّ صوت في مجالس الكوفة والشام، فبلَّغتْ حجة أخيها الحسين (عليه السلام) وأشاعت مصيبته بين أقطار الأرض، وتركت الناس بين باكٍ وآسف ومتمرد وخائف، حتى اُرغم الطاغية بإعادة ركب السبايا إلى أوطانهم آمنين.
على أنه لم يهدأ لعقيلة الطالبيين (عليها السلام) بعد رحيل أخيها الحسين (عليه السلام) عين، ولم تغب ذكراه عن قلبها المقدس، حتى آن وقت رحيلها إلى الشام – وقد ورد أن رحيلها كان رغما عنها- حتى إذا وصلت هناك، مرّت بشجرة كان قد عُلّق عليها رأس الإمام الحسين (عليه السلام) من قبل، فتذكرت تلك الأيّام العصيبة، وعادت إليها لواعج الأسى والحزن، فأصيبت بحمى تُوفّيت على إثرها بالقرب من دمشق، وذلك في الخامس عشر من شهر رجب عام 62 هـ، فسلام عليها يوم ولدت، ويوم سُبيت، ويوم استشهدت، ويوم تبعث حية.
خاتمة
إن ولادة السيدة زينب (عليها السلام) هي مناسبة للاحتفال بالفخر والكرامة، وهي تذكير دائم بقيم الصبر والثبات في مواجهة الصعوبات. فلنحتفل بهذه المناسبة العظيمة ونتذكر دائمًا الدروس المستفادة من حياة هذه الشخصية الفريدة.
[1] راجع تأريخ الذهبي: ج3، ص356.
[2] سفينة البحار: ج4، ص315.
[3] راجع الطبقات الكبرى: ج1، ص368، نقلا عن كمال الدين: ص501، الباب 45، ح27.
[4] زينب الكبرى للنقدي: ص81.