إن الإمام(ع) يقدّم لنا عوامل الاطمئنان بأن هذا العالم سواء في التكوين أو في التشريع، في الدين أو في السياسة ليس مرهونًا لفهم شخصٍ أو لحركة أمة، وإنما هو خاضع للتقدير الإلهي.
ويقول الإمام علي (ع) في موقف من أحداث الوجود ومجريات الأمور، تكويناً وتشريعاً: “تذل الأمور للمقادير حتى يكون الحتف في التدبير…”.إنه الموقف الذي برّزه القرآن الكريم في كثير من آياته، ولعله من أبرز هذه الآيات، قوله تعالى: “والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون”، فهذه الآية تحسم الموقف الإلهي، وترشد الخلائق إلى الكيفية التي ينبغي تعقّل الأحداث وفقها على قاعدة قوله تعالى “وخلق كل شيء فقدّره تقديراً…”.
فأمام الأحداث ومعايشة تحولاتها لا ينبغي لعاقل أن يلتفت إلى ما يقدّره الناس، أو تصنعه الدول، كما أنه يتوجب على من يتعقّل آيات القرآن الكريم، أن يفقه معنى تدبير الله لهذا العالم، وألا يعطي لنفسه ميزة التدبير إلا في حدود القدرة على القيام بالتكاليف التي خصّ بها الإنسان، وجعلته مسؤولًا أمام خالقه.
إن الإمام علي(ع) في مقالته يوضح حقيقة هذا الأمر، ويبيّن أن استنفاد حالة التعقل في وعي حركة العالم وأحداثه، لا تخرج شيئًا عن ما هو مقدّرٌ للأشياء، والوعي بهذا التقدير لا يخرج الإنسان عن كونه مدبّرًا، فكل شيء صائرٌ إلى تقديره في عين تدبيره، فإذا أراد الحاكم بأمر الله تعالى، أو المدّبر لشؤون الناس تجاهل تكليفه، أو التقصير عن أن تكون له شجاعة الموقف في التعامل مع أحداث وسياسات العالم، فإن هذا لا يبطل تقديرًا، كما أنه لا يحول دون أن تكون مجريات الأمور مدبّرة وفق مشيئة الله تعالى. ألم يسبق لنبي الله يونس(ع) أن ذهب مغاضبًا، فظن أنه مأخوذ بتدبيره، فكان له أن يُبصر بخلاف ظنه وتقديره! وقد كان لقومه ما لم يكن لأقوام آخرين، حيث قال تعالى: “إلا قومَ يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا”.
فالإمام(ع) يقدّم لنا عوامل الاطمئنان بأن هذا العالم سواء في التكوين، أو في التشريع، في الدين، أو في السياسة، ليس مرهونًا لفهم شخصٍ، أو لحركة أمة، وإنما هو خاضع للتقدير الإلهي، فإذا كان العدو يتربّص شرًا بالناس، ويمكر بالمؤمنين، فليس من واجب أهل الحكمة، وكل مَن يتحمّل المسؤولية ممارسة التدبير على نحو ما تقتضيه المصالح والغايات، وإنما عليه ملاحظة الواقع، والاطمئنان إلى حقيقة التقدير بلحاظ كون المقدّر هو الله تعالى، وإلا فما تكون فائدة أن يُعرض علينا القصص القرآني بكل ما انطوى عليه من حقائق في الباطن والظاهر؟ وكم من خطأ تدبيري أفضى إلى أن تكون الخسائر مضاعفةً بجعل مموّهات التدبير حاكمةً على كل تقدير!
لقد تعلمنا من القرآن الكريم،أن الأسباب الباطنة ليست بيد الإنسان،وكل شيء ميّسرٌ لما خلق له. فإذا كانت الأحداث والتحولات،وكذلك الحروب،محكومةً لتقديرات الله تعالى،فإن تدبيرات الإنسان تبقى قاصرةً عن أن تستوعب خفيات الأحداث،فهذا النبي يوسف(ع) رغم مواكبة الوحي والغيب له،أخذت به الأحداث والتحولات ليكون أسير خطأ تدبيري لم يكن يظن به شرًا،وكانت النتيجة طول الإقامة في سجن الحياة! فقال للذي ظن أنه ناجٍ اذكرني عند ربك..!وهكذا أتت الأحداث لتزيد من حالة التدبير بلحاظ التقدير الإلهي.
إن ما أراد الإمام علي(ع) تبيانه في مقالته،هو إحداث الوعي لدى مَن يتصدى لشؤون الناس،بحيث يعلموا حقيقة الموقف الإلهي لجهة ما ينبغي أن يكونوا عليه من تدبير،سواء في الحرب،أو في السلم،فإذا أطال الناس من تدبيراتهم دون إدراك لحقيقة الأسباب الكامنة،فإن من شأن ذلك أن يطيل من حالة بلاءاتهم ظنًا منهم أنهم يحسنون صنعًا وتدبيرًا!فالله غالب على أمره،ولن يتحقق شيء في هذا العالم من خارج إرادته ومشيئه،فهو الملهم والمدبّر،فلا يتوهمن أحدُ أنه في تدبيره يمنع حربًا، أو يُنشيء سببًا،ومَن يتقي الله يجعل له مخرجًا.
فالأعداء يتوهمون أن تدبيراتهم للعالم هي بمثابة التقدير والقضاء المبرم،وقد سبق لكثير من الطواغيت أن توهموا جهلًا بالأسباب، فكان حتفهم في تدبيراتهم الواهية،ولم تكن تجارب أهل الإيمان بعيدةً عن هذه التوهمات،كما عرضنا في قصص بعض الأنبياء!وهذا ما يستوجب على كل من يتحمّل مسؤولية القيام بأمر الله تعالى، أن تكون لهم تعقلاتهم القرآنية،لأن ذلك هو السبيل الوحيد لتحصيل الاطمئنان في ما يدبّر من أمور، ويصنع من أحداث.
إن الصدق مع الله تعالى والإخلاص في التوجه إليه،هو الشرط الوحيد لتأكيد المفازة حتى في لحظة التدبير الخطأ،فلا ينبغي المبالغة في التدبير طالما أن التقدير بيد الله تعالى،فإذا كان الإنسان يؤمن بأن الله غالب على أمره،فما باله يستوحش في طريق ربه!؟
إن أخطر ما يواجهه الإنسان في حياته،هو أن يوهم نفسه بأنه في غاية التدبير في لحظة غيبه عن التقدير،فإذا ما تساوينا مع أعدائنا في تجاهل حقائق وأسباب الوجود،وجعلنا من تدبيراتنا تقادير واهية، فلن نأمن على أنفسنا أن تكون لنا جوائز الفوز،لأنه في لحظة تحقق التوازي تظفر موازين القوى بالأحداث،ويكون النصر حليف الأعداء!ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون…والسلام.
بقلم الأكاديمي اللبناني ورئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات “د. فرح موسى”