عندما أرسلت الشمس خيوط الفجر فوق تلال جنوب لبنان، انطلقت قوافل السيارات، وأطلقت أبواقُها سيمفونية العودة إلى الديار. توجّهت العائلات اللبنانية نحو قراها فور بدء وقف إطلاق النار عند الساعة الرابعة صباحًا بتوقيت بيروت، بعد أن كانت قد نزحت لمدة طويلة بسبب عدوان الكيان الصهيوني. كانت النوافذ مفتوحة، والأيادي تلوّح بالأعلام الصفراء لحزب الله، مما يدّل على الاطمئنان والخلاص.

في أحد المشاهد المؤثرة التي تم تداولها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، صعد رجلٌ في جنوب لبنان على أحد الأعمدة ليزيل العلم الصهيوني الذي كان مرفوعًا عليه. وكانت الصرخة المشتركة للناس العائدين إلى جنوب لبنان: «هذا بيتنا».

بينما كانت الأجواء تعجّ بالفرح والاحتفال، قال رجل دينٍ يحمل علم حزب الله في يده، وكانت عيناه تعكسان مزيجًا من البهجة والعزيمة: «لن تسقط هذه الراية من أيدينا؛ هذه الراية لم تسقط على الأرض أبدًا، ولن تسقط في المستقبل. ظلّت هذه الراية مرفوعةً دائمًا، بفضل دماء الشهداء، بفضل الجرحى والمصابين، بفضل الأسرى، بفضل كل الناس».

لكن في الجهة المقابلة من الحدود، في شمال الأراضي المحتلة، كان الوضع مختلفًا تمامًا. المستوطنات الصهيونية ما زالت خالية من السكان. على الرغم من وقف إطلاق النار، لم يعد المستوطنون إلى منازلهم القريبة من الحدود. أشار غابي نعمان، رئيس بلدية مستوطنة “شلومي” الشمالية، إلى هذا التباين الواضح قائلًا: «سكاننا ما زالوا بعيدين عن منطقة الحدود حاليًّا». ظلّ الخوف وانعدام الاطمئنان قائمين، خوفٌ زرعته مقاومة حزب الله في نفوسهم.

تناولت وسائل الإعلام التابعة للكيان الصهيوني صور اللبنانيين العائدين إلى منازلهم، متحدثةً عن مشاعر الإحباط والذهول. أشارت إحدى الوسائل الإعلامية إلى غضب الصهاينة بعد رؤية مشاهد عودة اللبنانيين إلى قراهم ومنازلهم، في وقت لا يزال فيه سكان المناطق الشمالية للأراضي المحتلة غير قادرين على العودة. طرح الصهاينة سؤالًا مقلقًا في وسائل التواصل الاجتماعي: «إذا كنا قد وجّهنا لهم ضربة قاصمة، فلماذا يعودون بينما لا نعود نحن؟».

تطرح هذه الأسئلة تباينات مهمة حول اتفاق وقف إطلاق النار الأخير. لماذا قَبِل الكيان الصهيوني، رغم ادعائه التفوق العسكري، شروطًا تبدو كأنها تترك مستوطنيه في الشمال في حالة من الضياع؟

يعتقد دينيس روس، المحلل البارز في معهد واشنطن والعضو السابق في مجلس الأمن القومي الأمريكي، أنّ وقف إطلاق النار في لبنان هو نتيجة رغبة الكيان الصهيوني في تجنّب الوقوع في المستنقع اللبناني.

هذا يعني أنّ الصراع الطويل كان يهدّد الكيان الصهيوني بالتحول إلى مأزقٍ غير قابل للحسم والانتصار، مع تكاليف عالية، ومن دون استراتيجية واضحة للخروج.

لفهم هذا الأمر، يجب أن ندرس التطورات الميدانية. عندما قَبِل بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، وقْفَ إطلاق النار، ادّعى أنه قد «أعاد حزب الله إلى الوراء لعقود من الزمن»، وأنّ قوّة هذا التنظيم «لم تعد كما كانت من قبل»، إلّا أن الواقع الميداني كان مختلفًا. أظهرت قدرات حزب الله الصاروخية أنه قادر، متى أراد، على ضرب عمق الأراضي المحتلة بدقّة، الأمر الذي وضع حسابات الكيان أمام تحدٍّ كبير.

عرض المسؤولون العسكريّون في الكيان الصهيوني تقييمات صريحة. فوفق التقارير، أذعنَ تمير هيمن، رئيس جهاز الاستخبارات العسكريّة في الكيان الصهيوني، بأنّ الجيشَ قد فشل في تحقيق كلّ أهدافه في المواجهة الأخيرة. كما أكّد على مقاومة مقاتلي حزب الله، وقدرتهم على التكيّف مع الظروف القاسية، وتابع قائلًا: «لقد أثبت مقاتلو حزب الله شجاعتهم خلال معركتهم ضدّ الجيش الإسرائيلي، وأنّ المعادلات لا تُحدّد إلّا في ساحة المعركة».

كان التأثير الاقتصادي داخل الأراضي المحتلّة ملحوظًا. فقد واجهت الأعمال التجاريّة في حيفا، التي تَبعُدُ مسافةً كبيرة عن حدود لبنان، انخفاضًا بنسبة 90 بالمئة في أكتوبر العام 2024. قال أحد أصحاب المحلّات الصهاينة: «النّاس لا يخرجون إلى الشّوارع، والأوضاع في حيفا مُقلقة». وقد وصل الخوف بين المستوطنين إلى تل أبيب، وذلك بسبب اتّساع رقعة منطقة الاشتباك.

عزّزت قدرات حزب الله في استهداف كلّ أرجاء الأراضي المحتلّة خلال الأشهر الأخيرة مخاوفَ الكيان الصّهيوني. وهذه المرّة، بدل المئة ألف شخص الذين هُجّروا من المناطق في الشّمال، كان احتمال تهجير ملايين الأشخاص مطروحًا. كان الاستمرار في الحرب مؤدّيًّا إلى بروز تهديد مفاده: سلب الأمن الحقيقي من كلّ نقطة في الكيان الصهيوني، وتشديد الخوف من تصاعد وتيرة الهجرة العكسيّة، واتّساع نطاقها.

في نيسان/ أبريل الماضي، وبعد مهاجمة الكيان الصّهيوني القسم القنصلي في السفارة الإيرانيّة في العاصمة السوريّة دمشق، بادرت جمهوريّة إيران الإسلاميّة إلى إطلاق مئات الطائرات المسيّرة والصواريخ من الأراضي الإيرانيّة باتجاه الأراضي المحتلّة، كخطوة تحذيريّة وعقابيّة. وفي تقريرٍ له بشأن الأوضاع المضطربة التي عاشها الكيان بعد هذه العمليّة الناجحة لإيران، كتب رونن برغمن (Ronen Bergman) ذو الصّلة بالموساد، نقلًا عن مسؤولٍ صهيونيّ مُطّلع: «إذا نشرت وسائل الإعلام النقاشات الداخليّة للمسؤولين، سيهجم 4 ملايين شخص على مطار بن غوريون من أجل الخروج من البلاد».

وهذه الحقائق تتعارض بشدّة مع إعلان نتنياهو تحقيق الانتصار. وهو الذي أشاد، خلال عرضه اتّفاق وقف إطلاق النّار، بـ«الإنجازات غير المسبوقة» للكيان الصهيوني خلال العام الفائت.

وقال قائد الثورة الإسلاميّة، الإمام السيّد علي الخامنئي، يوم الاثنين، خلال لقاء مع التعبويّين، في معرض شرح سماحته انهزام الكيان الصهيوني: «قصفُ بيوت الناس ليس انتصارًا. لا يظنّنّ الحمقى أنّهم بقصفهم بيوت النّاس، والمستشفيات، وتجمّعات المدنيّين، حقّقوا النّصر. كلا! لا أحد في العالم يعدّ هذا انتصارًا. هذا ليس انتصارًا، وهذه ليست انتصارات. العدوّ لم ينتصر في غزّة، ولم ينتصر في لبنان، ولن يحقق العدوّ الانتصار في غزّة ولبنان».

عَكسَ رئيس بلدية مستوطنة “شلومي”، غابي نعمان، الخوفَ الذي أصاب الصهاينة، وقال في هذا الصّدد: «كلّ شيء عُرض علينا يُشير إلى أنّ الجولة القادمة من الحرب وشيكة، إن كان ذلك في غضون شهر، أو شهرين، أو عشرة أعوام». وأظهر استطلاعُ رأيٍ أجرته وسائل إعلام الكيان الصهيوني أنّ 70 بالمئة من المستوطنين الذين يعيشون قرب الحدود مع لبنان؛ يعتزمون عدم العدوة إلى منازلهم. تعود جذور فقدان الشعور بالأمن هذا إلى قضايا أعمق تتعلّق بالهويّة والانتماء. فعلى أحد جانبَي الحدود، تعود العائلات اللبنانيّة إلى أراضي أجدادها. وفي الجانب الآخر، هناك مستوطنون غير متجذّرين في هذه الأرض، وقد اغتصبوها بالقوّة من الفلسطينيّين.

عندما يقول نعمان: «لا يوجد في الوقت الرّاهن أيّ مُخطّط للعودة إلى المنازل»، فإنّ كلمة «المنزل» تحمل معاني مختلفة. بالنسبة إلى اللبنانيّين، هو حقٌّ، وإرثُ الأجيال المتعاقبة. لكن بالنّسبة إلى المستوطنين، هو مكانٌ لم يعد يوفّر لهم السّكينة والأمن، فهم سلبوه من الفلسطينيّين، وأفقدوهم مكان سكنهم.

وهذا هو المفهوم الذي يقول بشأنه إدوارد سعيد، المفكّر الفلسطيني البارز: «كنا شعبًا تمّ طرده من أرضه. كنا السكان الأصليين الذين تم إخراجهم من أجل إقامة دولة يهودية».